للقصة القصيرة كلون إبداعي غوايتها...
حاورهد. إسماعيل نوري الربيعي: على أهداب التأمل، يقف خاشعا في حضرة المعنى، هادئا كأشد مايكون، وصاخبا كأشد مايكون، وواثقا كأشد مايكون، وهكذا هو أبدا لا تلبث تراه، إلا على طريقة الأشد مايكون. يراقب العالم ببصيرته الحادة النافذة، من كوة حفرها بأضافره، يتبسم لهذا اللامتناهي الذي يتسلل إليه، واضعا عليه قائمة طويلة من الرغبات والحاجات، وبقلب المتسامح تراه يغظ الطرف منعا للحرج، كن جميلا ترى العالم جميلا، وزياد علي هذا القاص الذي يسعى نحو تفسير العالم، يرى الجمال في كل شيء، في الحياة والموت والحب والأحزان.
يترصد الجذع المتوحش في جدب التغولات، التي يقرنها البعض من بني البشر، بالتفاصيل المجزأة، يؤسس للإنساني في عالم يمتلئ بسعير الاضطرام، حيث اللهاث نحو طوفان الرغبات والحيازات والتملكات، وبين هذا وذاك يقف هذا الزياد هادئا متماسكا، غير مأخوذ بهذه أو تلك، حسبه ورقة وقلم وبريد يتواصل به مع الأصدقاء. ذلك هو االعالم، وتلك هي الحسبة العجيبة الوصفة السحرية، التي تجعل من هذا القاص متماهيا مع التفاصيل، ومن مشكاة الكلم الدقيق نراه يوغل في حشد التفاصيل، بغية التأسيس لكينونة الكائن، في صوفية قوامها الزهد والتبتل بفيض الإنسان الذي يعيش. يوغل في ترسم خريطة العلاقات، مذكرا بهذا الطائر الذي وجد نفسة على حين غرة فاقدا ريشه. القاص الليبي زياد علي
زياد علي قاص ليبي مسكون بهاجس البحث، عن المهمشين والمقصيين، يعالج الكآبة بالسرد ويفكك مكنونات القنوط بالإستناد إلى شرط الحقيقة التي يتقحمها، غير آبه أو متردد أو حتى هياب. تسأله: ((شنو حالك ياراجل)) فيجيب بتمهل وتؤدة ((عايش، تحسبني حي)).
* كثافة لافتة في نصوصك السردية، كأنك تسعى نحو اختزال العالم في مشهد واحد، أهو المسعى نحو التفحص العميق في الظواهر الإنسانية؟
- اتسعت الرؤيا حقاً كما يقول النفري ولم تضيق العبارة ولكن حدود البوح قد لا يأخذ مداه... في مرحلة سابقة كان الرمز وكانت أقنعة أخرى، هذا ما لم يعد مطروقاً الآن.. وجاء التكثيف، لغة صوفية تخفي الكثير، وتقف عند حدود الأمان أحياناً، تحمل خصوصية تحاول التمايز والابتعاد عن قاموس الآخر، ويفرضها الثأني في الاختيار والانحياز لرصد ما يشكل الجديد والخاص أنها تحتاج لهذا بوصفها تجارب لها خصوصيتها، وعوالمها وتركيزها على عمق العمق دون السماح بتشتيت الإضاءة التي تفرضها شهوة الحكي عندما تتجاوز الخطوط الموضوعية، وتسقط في فخاخ احترام الكلام دون الصمت الذي يجب أن ننتبه إليه.
وربما في مثل هذا التكثيف السردي ما يضر، حيث يتخلف بعض القراء عن متابعة الأبعد، وتتوالد حواجز قد لا ينتبه لها الكاتب وهذا ما أعتقد أنني وقعت فيه، وبين اختيار انتظار الوقت المناسب وتسجيل الموقف متحدياً الخوف كان الانحياز للشهادة في زمانها ورصد المسكوت عنه بشكل أدبي وهذا ما جنح بالكتابة إلى هذا النهج بما يحويه من غموض وتكثيف.
إن مصادرة شهوة الحكي والمجانية واحترام وقت الآخر وأيضاً محاولة الوصول إلى تخوم قدرة التواصل عند المتلقي دون تجاوزها، والولوج به إلى حيث الملل كل هذا كان المنشود وكانت الفكرة التي تحاول أن تلبس الثوب الفضفاض.
* حشد من الأسماء الكثيرة في مجال القصة القصيرة، ما انفكت ليبيا تقدمه، ما هو السر في ذلك وما هذا الغرام لفن القصة القصيرة الذي يقع فيه المبدع الليبي؟
- للقصة القصيرة كلون إبداعي غوايتها.. وهذا ما أوجد التراكم على مستوى الوطن العربي، وربما الرواية الآن تأخذ الكثير من فضائها والمبدع الليبـي شأن العربي يبدأ بالقصة القصيرة وينتهي بالرواية التي تمنحه فرصة أكبر من الاتساع.. وتحقق له لعبة التمادي في شهوة الحكي، وهذا ليس بالغريب على موروثه من شهرزاد إلى ألف ليلة وليلة، وربما سيطالعنا البعض بما يفيض عن الرواية الخماسية.
* تمارس الكتابة الإبداعية، وأنت الباحث القانوني، من يهيمن على من، خصوصاً وأن القانون مجال يقوم على الصرامة والنصوصية العالية؟
- الكتابة الإبداعية كانت في البدء أما القانوني فقد فرضته ظروف الاختيار الغير موضوعي، وربما للظروف السياسية ظلالها بخصوص هذا التوجه. لقد كان الإبداع الأقرب للنفس وكان القانون الاختيار العملي عندما كان يتوجه إلى ما تحب النفس وحتى في هذا الأمر أبعدت الظلال السابقة ما تحب النفس عن النفس.
فالقانون على مستوى اختيار الانحياز إلى العدالة وحقوق الإنسان والوقوف حيث يجب أن يقف المحامي الإنساني، وسبر أغوار البحث في القضايا التي تصب في العوالم المشرقة لم يكن دربه واضحاً في السنوات الماضية. وكان صراع الذات مع التوجيه الذي يفرض من أعلى ورفض فرض الاختيار. كل هذا ترك للقانوني الجانب الأكاديمي والبعيد عن العملي حيث يجد المرء ما لا يريد، وتسد دروب الإرادة. إلا أن ما يتحقق للإبداعي هو الجدار الذي يستند إليه. والانتباه إلى صرامة النصوص كما تَفَضَلْتَ وعدم إغفال وجهها الآخر وهو روحها.. روح القانون، وما يتواخاه في البعيد ويتبقى للمبدع فضاءه بالكامل ويأخذ الباحث القانوني القليل عندما يكون زمن الحلم غير مناسب.
ما للأدب للأدب، وما للقانون للقانون. الأول أقرب على القلب، والثاني أقرب للعقل.
والتماس قائم بينهما، وإذا ما كانت الصرامة هي الجدار الذي يقف في وجه المتطلع إلى النصوص الجامدة فإن غياب شفافية الإنسان يجعل من القانون نصوص لا تمر على درب القلب ولا تقف عند حدود احترام أدمية خلق الله في الأرض.
* خبرت العمل الصحفي في العديد من المؤسسات الصحفية، وكانت لك تجربة طويلة في الصحافة المهجرية، عن نكهة الكتابة والشغف بالحرية، عن الترصدات والمكابدات؟
- للعمل الصحافي إيجابياته وسلبياته، فهو لا يسمح بتجاوز الخاص للعام، والجانب المعيشي غالباً ما يكون له حضوره، كما أنه يسرق زمن الإبداع الثقافي على الأقل بالنسبة للفضاء العربي.
وأسوأ ما يقع فيه البعض غياب التخصص والذي كان الشائع في ذلك الزمن البعيد نسبياً... وربما في إطار الخاص دون المؤسسات العامة ( الحكومية ) تكون الأمور أفضل عندما تغيب ( أنا ) صاحب المؤسسة. خاصة عندما لا يكتفي بأن يقف عند حدود المالي والإداري، ويتطلع إلى اختراق النص وتوجيهه. ربما هذه التجربة عشتها مع مجلة الأزمنة العربية - دولة الإمارات العربية المتحدة - عام 1980 وعاشها الصديق الشاعر العماني سيف الرحبي بعدي، ولكن نكهة تماس الصحفي مع المبدع لها خصوصيتها. وقد شاركت في العديد من الصحف العربية كمبدع سردي وفي تشكيل تفاصل بعض خطوط الخريطة الإبداعية العربية أولاً، والإنسانية في حدود، كما فرضت الكتابات الصحفية نفسها عبر المقابلات وأدب الرحلات والانحياز إلى أماكن لها ما يقربها من النفس إضافة إلى مشروع التواصل بين مبدعين وزملاء لهم ومتلقين أيضاً.
وربما ما هون على المرء تعب المكابدات والترصدات الإحساس بالحرية في اختياراته وكتاباته وتحقيقه لبعض الحلم المحقق لمشروعه الخاص أن يمد الجسور ويساهم في فتح قنوات التواصل الإبداعي الإنساني وهذا ما كان الانحياز إليه منذ البدايات، فإن تكتب ما تؤمن بأهميته وأن تختار الوقوف على الأرض التي تحبها هو الحرية والسعادة والاختيار الذي يرضي الضمير، ولا يبتعد عن الصدق واحترام النفس.
* هاجس العالمية التي يحط بثقله اليوم على المبدع العربي، لك العديد من النصوص التي ترجمت إلى اللغات الحية، وكانت لك الكثير من اللقاءات مع قامات وأسماء أدبية عالمية، كيف ينظر زياد علي إلى الإبداع، هل يمثل طريقاً إلى النجومية، أم هو هاجس من أجل الشعور بقيمة الحياة؟
- ذات يوم أخبرني صديق عزيز ( صاحب ورئيس تحرير مجلة الجيل، الأستاذ مازن البندك، تصـدر من فرنسـا بعد تجفيف لبنان إعلامياً ) أنه تحفظ على ما كتبتـه تحت عنوان ( حكايات عن اليهود ) نتيجة ما يترتب على ذلك من مشاكل، وفي إطار المزح أخبرني أمن مثل هذه الكتابات ستقف يوماً في وجه الحصول على جائزة نوبل وغيرها. وربما وصل معي إلى طريق مسدود، أن يختار بين توقفي عن الكتبة معه أو نشر ما أقدمه إليه، وهذا ما حدث بعد فترة، عندما أفرد ملفاً كاملاً للحكايات. هذا هو المبدأ الذي فرضته نوعية التربية والقيم التي تشربناها. وهذا ما يزيح عن كاهل الفرد الضغوطات ( تحضرني الآن كتابات الصديق خليفة الفاخري البدع الليبي الذي لم يسعى إلى نشر نصوصه العديدة في أي مطبوعة خارج ليبيا رغم قيمتها الإبداعية، مقالة، وقصة، إلى جانب حضور الكم ) هذه القناعة تبعث على الراحة حقاً وتغيب اللهث خلف الحضور المبالغ في أدواته والذي يخضع لشروط ليست في الغالب مناسبة.. ما ترجم لي شخصياً متواضع لا يحقق حضوراً ملفتاً. ولم أحرص على الاستفادة منه.
أيضاً اللقاءات مع قامات وأسماء أدبية عالمية جزء من مخزون الذاكرة ومن التجربة التي قد أستفيد من تدوينها يوماً وكم تحايلت في مرات عديدة على النفس حتى لا أسمح لها بالحكي عن قامات إبداعية إنسائية كالراوئي جورج أمادو، وغيره ممن في حجمه الإبداعي.
إن الإبداع عندما يكون طريقاً للنجومية يتم تفريغه من أجمل ما فيه، إنه الخلق وهذا يكفي. يقول الدكتور عبد العزيز المقالح في بداياته: ( أنني لا أطمح لأكثر من شهرة شاعر شعبي في قرية عربية ). والمحلية هي الطريق إلى الفضاء الأوسع وقيمة الحياة في ذاتها أما ما تشكله لنا فهذا يتحقق أمام خطواتنا والدور الذي نلعبه أن الإبداع وهو أمام معادلة الفن للفن أم الفن للحياة قد وقف حائراً في الاختيار وكان لاختيار المزج ما يحقق الراحة. فالهاجس هو تحقيق الإبداع الإنساني الذي لا يغتاله الزمن بل يوشم حضوره طالما هناك من يتقبل التفاعل مع الحضور الإبداعي الإنساني. وهذا أعظم ما أحلم به.
* بين الإدارة والعمل المكتبي، والالتزام الوظيفي، أمضى د. زياد علي المزيد من وقته، فقد عملت رئيساً للتحرير للعديد من الصحف والمجلات، ومارست العمل النقابي بوصفك أحد المسؤولين في رابطة الأدباء والكتاب الليبيين. أين يستقر المبدع، على أي ضفة؟
- التفرغ للعمل الإبداعي ترف لا يقدر المرء عليه وخاصة في منطقتنا العربية، واختياره ليس بالأمر السهل. وما يقوله المرء: هي المقادير فدعني أو فذر... حسب تعبير أبو الطيب المتنبي، أما الضفة التي يحاول المبدع الاستقرار إليها فهي حيث يجد نفسه ويجد الذين ينحاز إليهم. وليست الأمور دائماً كما نشتهي ولكن تتطلب فرض عزلة المبدعين الكبار على النفس حتى تحقق شيئاً من الحلم بالعمل المحقق للفرح.
التعليقات