أنعكست الاجواء الايجابية التي رافقت انعقاد جلسة المصالحة في طرابلس مساء الثلثاء الواقع في 8-9-08 ارتياحاً شاملاً على جميع الصعد الحياتية، والتي من المنتظر أن تتسع دائرتها في المرحلة المقبلة لتشمل كافة ارجاء الوطن، وصولاً ربما للمساهمة في ترميم ما انقطع من جسور على مستوى العلاقات بين الدول العربية المحورية. فمنذ الاعلان عن هذه المبادرة وفي الفترتين التي سبقتها وتلتها، توالت المواقف المؤيدة، والمشجعة، والدافعة بمنحى الالتقاء والتآلف العام، بدافع رغبة جميع الفرقاء في تبديد رواسب المرحلة السابقة، والتي أدى افتعالها في المدينة الشمالية العريقة، إلى أكثر من مأساة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي.


والجدير بالذكر أن مبادرة اتمام quot;وثيقةالمصالحةquot; هذه والتي تمت بين مختلف مكونات الشمال، والتي جرت برعاية وحضور رئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري، ورئيس الحكومة فؤاد السنيورة، والرئيس السابق للحكومة عمر كرامي، وزعيم الطائفة العلوية أمين عام الحزب العربي الديمقراطي علي عيد، وحشد من الفعاليات الشمالية، تمهد لقيام مصالحة شاملة على مستوى الوطن. من هذه الردود المؤيدة تلك التي جاءت أولاً من قبل الرئيس نبيه بري، كما صدرت قبيل الاجتماع على لسان أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله، الذي دعي لمصالحة مشابهة خلال حديث تلفزيوني. أما على الصعيد الاقتصادي، فلقد صدر عن مؤشر بورصة بيروت بأن أسعار الاسهم الداخلية، ولا سيما أسهم سوليدير شهدت نزعة تصاعدية، ناهيك عن التأكيد الذي صدر عن متعاملين ورؤساء غرف مالية في مصارف لبنانية كبيرة على كون العوامل المطمئنة تشكل المحفزات الرئيسية للطلب في البورصة، مما يؤكد أهمية دور الانفراج السياسي على النهوض الاقتصادي. أما المتوقع في المرحلة المقبلة فهو أن يشكل التوافق الحقيقي في شأن القضايا الخلافية في طرابلس، دينامية جديدة تخرج البلاد وليس فقط الشمال من أجواء المخاوف الامنية التي ما زالت تعيق وتشل الحركة الاقتصادية بشكل عام، وتؤخر النمو.


إن في إزالة كافة المظاهر المسلحة وتسليم الجيش المهام الامنية دون سواه هو كفيل بارخاء جو الارتياح المطلوب في مدينة طرابلس، كما يمهد لعودة المهجرين قسراً ولانسياب الحياة الطبيعية في كافة مرافقها كما في السابق. هذا مع العلم أن مبادرة تطبيق برنامج انمائي للمناطق المحرومة، تشكل مبادرة حكيمة، لأنها تتكفل بابعاد شبح الاصولية التي تجد لها عادة أرضاً خصبة في الاحياء الفقيرة والمعدمة، حيث تسعى لشراء الضمائر والنفوس من أجل أهداف تخريبية.


أما على صعيد موقف المعارضة فمن المتوقع أن تتلقف الاطراف الداخلية المعنية بالملف الطرابلسي كحزب الله مثلاً، مبادرة quot;وثيقة المصالحةquot; هذه، وما مد أمين عام حزب السيد نصر الله اليد وبشكل استباقي للمبادرة باتجاه رئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري، سوى خير دليل على هذه النوايا. إذ لا بد من اتساع رقعة التواصل والاتفاق حتى تعم كل أطياف الوطن عل أن يصار في المرحلة المقبلة مصالحة على مستوى فعاليات مدينة بيروت، لوضع حد نهائي للمفاعيل السلبية وللأثار المدمرة لتي تركتها أحداث 7 أيار في النفوس. وما قال الرئيس كرامي أن المصالحة واللقاء على مستوى القيادات يبدد خطورة تجدد الاشتباك على صعيد الشارع. فالحاجة إذاً باتت ملحة حتى يرقى القادة والزعماء على مستوى المسؤولية التاريخية الملقاة على عاتقهم، في عملية لم الشمل وعدم الارتهان لمصالح خارجية على حساب المصلحة الوطنية العامة. وتبقى العبرة في التاريخ الحديث، حيث أظهرت خفايا الازمات والحروب في لبنان، مدى هشاشة التحالفات خارج حدود الوطن، وكيف يتحول الزعماء والقادة وبين ليلة وضحاها، من حلفاء لاطراف خارجية لوقود أو لاوراق تصرفهم أو تحرقهم عند الحاجة، أو حتى إلى أخصام يجب تصفيتهم، ضمن مسلسل الصفقات الاقليمية التي من الممكن أن تقومها على أنقاضهم.


إن في استشعار فريقي 8 و14 أذآر للاخطار الداهمة بعد كلام الرئيس الاسد دفع بالفريقين إلى مواقف أكثر اعتدالاً وتقارباً. ففي وقت رأى فيه فريق 14 أذار تدخلاً مباشراً بالشؤون اللبنانية، ومساً بكرامة الوطن وانتهاكاً للسيادة تذكر بالنهج الذي كان متبعاً في ما يسمى بفترة الوصاية السورية على لبنان، اعتبر حزب الله وبالتالي قوى 8 أذار من بعده، بأن كلام الاسد غير مقبول، أما وقد رشحت مواقف منددة من هذا النوع على لسان الوزيرين العونيين، جبران باسيل وماريو عون. ولا بد من الاشارة أيضاً، إلى أن المواقف الرافضة لكلام الرئيس الأسد والصادرة من قبل المتحالفين مع حزب الله، ليست فقط من باب الاعتراض على الانتقاص الحاصل للسيادة الوطنية، بسبب لهجة الاسد الفوقية، بل وأيضاً لأن أي عودة محتملة لسوريا من بوابة الشمال، هي مقلقة كونها قد تعمل على تقويض النفوذ الايراني على قوى 8 أذار وعلى الساحة اللبنانية بشكل عام. فرب ألف مرة عودة للتنسيق مع قوى 14 أذار، والعودة لطاولة الحوار مع كل يترتب على هذه العودة من تنازلات، ولا مرة احتمال الرضوخ والخضوع لارادة السوريين من جديد، وتاريخ السوريين في التعامل المزدوج مع حلفائهم اللبنانيين هو حافل وغني عن التذكير. أما الجانب السوري قد تكون نواياه من وراء احتمال العودة، التمكن من الامساك مجدداً بورقة مهمة مثل ورقة حزب الله، قد تساهم في دعم وتقوية مواقفه في المفاوضاته المقبلة الغير مباشرة مع اسرائيل. وفي الاستياء العام داخل الحزب لتصاريح الاسد حول الشمال اللبناني أكثر من دلالة وفي مقدمها أيضاً، القلق الايراني للتحرك المنفرد لسوريا خارج إطار التنسيق مع إيران، أما وقد صدر التهديد الساركوزي لايران من العاصمة السورية بالذات دون أن يقابله أي رد من الرئيس الاسد، شاجب أو مستنكر أو حتى متنصل.


وفي النهاية يمكن القول أنه من المتوقع أن يرجي جو الارتياح الذي أفرزته وثيقة المصالحة في طرابلس ليس على الداخل اللبناني وحسب، بل جو العلاقات المتشنجة بين سوريا وكبار العرب أي السعودية ومصر. فهذين البلدين يشجعان كل ما من شانه إرساء الوفاق والتقارب على مستوى العلاقات الداخلية في لبنان، ويبعد شبح الحرب الاهلية. وما قطيعتهما الشبه الكاملة مع سوريا، والبرودة التي تميز علاقاتهما الحالية معها سوى بسبب تعنت سوريا، وتشددها في مواقفها السابقة، خلال قمة دمشق حول لبنان. وأي مصالحة تجري في لبنان دون أن تسعى سوريا لتخريبها، قد تعيد الدفء للعلاقات بين سوريا من جهة، والمملكة العربية السعودية ومصر من جهة اخرى.


وهكذا تكون طرابلس قد شكلت انطلاقة لارضية صالحة للتقارب الاقليمي، بدل أن يكون لبنان دائما صندوق بريد تودع في داخله الخلافات العربية، أو ساحة تحلق دائماً في أجوائها بالونات تصفية الحسابات الاقليمية.


مهى عون