الإنتاج الدرامي الضخم و غير المعهود في الأعمال الفنية العراقية الذي أقدمت عليه ( قناة الشرقية ) العراقية عبر إنتاج مسلسل تلفزيوني مشوق و هو المسمى ( الباشا ) و الذي يتمحور حول سيرة و حياة أحد أبرز مؤسسي الكيان العراقي الحديث الشهيد المرحوم نوري السعيد رئيس الوزاراء العراقي الأسبق خلال العهد الملكي يمثل واحدا من أبرز معطيات النجاح و التألق للفن العراقي خلال المرحلة القادمة و بعد التحرر من ربقة الفاشية و الفكر الآيديولوجي المتعصب الموجه بإتجاه خدمة فكر حزب واحد فقط، و مسلسل الباشا تتجاوز إشكالياته و مؤثراته السيرة الذاتية المحضة لتدخل في عمق عملية التشريح المنهجية و إعادة القراءة للتاريخ العراقي المعاصر بعيون و عقول مفتوحة و متفتحة بعيدا عن عسف التعصب الآيديولوجي الكرية و الممقوت!

و هي أول مرة في تاريخ الدراما العراقية المعاصرة يتم خلالها اللجوء صوب التاريخ القريب لمحاولة تصحيح المفاهيم و رفع الحجب و جبال الوهم عن أطنان هائلة من الأكاذيب و الدعايات المضادة التي كانت موجهة منذ خمسين عاما بالتمام و الكمال ضد العهد الملكي العراقي و رجال الرعيل الأول من الطبقة السياسية العراقية الذين كان لهم القدح المعلى في تكوين و إنشاء و وولادة العراق الحديث بحدوده الدولية المعروفة حاليا بإستثناء تلك التي نقصت أو قضمت خلال العهود الجمهورية الكئيبة التي إنتهت بإعادة إحتلال العراق أمريكيا هذه المرة ليعود العراق في أوائل القرن الحادي و العشرين بلدا محتلا كما كان في أوائل القرن العشرين الماضي!!

في مفارقة تاريخية لم تتكرر كثيرا في تاريخ الشعوب الحية، و الدور الخطير الذي يلعبه هذا المسلسل يتمثل في رأيي في إعادة التفكير الجمعي في مسيرة و سمعة عهد تكالبت عليه سيوف الطعن و معاول الهدم حتى سمي بالعهد الملكي البائد بعد إنقلاب 14 تموز الدموي الأسود عام 1958 رغم أن نهاية ذلك العهد بالطريقة المتوحشة التي إنتهى بها كان البداية الحقيقية لوقوع العراق بيد طبقة جديدة من رعاع السياسة و العسكر إنتهت بهيمنة نظام فاشي عشائري متخلف كنظام البعث الصدامي الذي رسم طريق النهاية للعراق المستقل بعد أن وقع البلد تحت الإحتلال الدولي و أضحى ساحة مستباحة للقوى الإقليمية و هيمنت فئات طفيلية جديدة من الطائفيين و رجال العصابات على مقدراته، و هي هيمنة لم تكن منفصلة أبدا عن السياق التاريخي للصراع السياسي و الإجتماعي في العراق، مسلسل نوري السعيد ( الباشا ) يمثل مفاجأة حقيقية في العمل الدرامي العراقي الهادف لتصحيح التاريخ و مسح الغبار عن صورة عهد لطخ و ظلم و لم تسنح لأي أحد فرصة الدفاع المنصف عنه رغم أن التاريخ قد قال كلمته الأخيرة و الحاسمة في الموضوع و أنصف النظام و الرجال الذين ضحوا بحياتهم و بذلوا دمائهم من أجل إنبثاق الوطن العراقي من العدم و من عتمة قرون التخلف و الإحتلال الأجنبي، سيدهش الجيل العراقي الجديد الذي نشأ و تربى على مواسم الحرب و الفاشية و تمجيد القائد الأوحد المهزوم و الذي دخل اليوم أي هذا الجيل في غيبوبة جديدة بعد إنطلاقة الروح الطائفية المتعصبة بمفاهيمها المتخلفة، من الحقائق التاريخية التي غيبت عن أجيال عراقية عديدة لم تعرف عن المرحوم نوري باشا السعيد سوى كونه عميلا للإستعمار البريطاني و أحد أكبر المتعاونين مع السياسة البريطانية و هو ما رسخته للأسف الدعاية القومية الناصرية و دعايات الشيوعيين الذين كانوا طرفا في الحرب الكونية الباردة خلال مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية و الذين حين أتيحت لهم فرصة البروز في العراق لم يفعلوا شيئا و ظلوا محافظين على فشلهم و ذيليتهم، نوري السعيد لم يكن ملاكا بكل تأكيد و لكنه بالمقابل ليس شيطانا رجيما بل كان عسكريا لامعا و سياسيا أريبا محنكا حاول بكل جهده إقتناص الفرص السانحة و إنتزاع المطالب من فم الأسد البريطاني من أجل بناء العراق و نهضته رغم العديد من الظروف الداخلية المحبطة، لقد تمكن نوري السعيد و ساسة العهد الملكي من إنتزاع إستقلال العراق وفق أسلوب الممكن و المتاح فكان العراق أول دولة عربية تنال إستقلالها عام 1932 و أول دولة عربية دخلت في عصبة الأمم و حافظ النظام الملكي بمساعدة بريطانيا على عراقية و عروبة الموصل كما جافظ على عروبة و عراقية نهر شط العرب و لم يفرط بشبر من التنازلات التي قدمها الثوار من الضباط الأغبياء أو الحزبيين الفاشيين و العشائريين.

مسلسل ( الباشا ) يثير الهموم و الشجون و يلقي الضوء على مسيرة عهد و نظام إجتهد و أخطا ثم نجح و لكن للأسف لم يتح حظ الشعب العراقي العاثر أن يستمر ذلك النظام في دورته الطبيعية ليتطور العراق تلقائيا و في ظل دولة دستورية محترمة، فقد كانت للأقدار مشيئتها و للتآمر الدولي شأنه، و هذا المسلسل دعوة قوية لنهضة الدراما العراقية التي باتت تتحمل اليوم مسؤوليتها في رفع شأن الثقافة العراقية الوطنية المبدعة التي تتسامى على القيم و السلوكيات الطائفية المتخلفة... فتحية لكل من ساهم في إنجاز ذلك العمل الرائع الأصيل.

داود البصري

[email protected]