شعور بالأسف الممزوج بالخجل والحيرة تملكني حين قرأت قصة ماهر الجوهري، المواطن المصري، الذي ترفض السلطات في بلاده الاعتراف بتحوله إلى المسيحية. يرجع سبب الشعور بالأسف إلى تغييب حرية العقيدة عن مصر، وإلى سياسة الازدواجية في المعايير التي تطبقها السلطات المصرية حين تقوم بتسهيل تحول المسيحيين إلى الإسلام وتمنع تحول المسلمين إلى المسيحية رغم وجود النصوص الدستورية التي تحمي حرية العقيدة. ويعود سبب الشعور بالخجل إلى اضطرار ماهر الجوهري لترك منزل أسرته الذي كان يعيش فيه مع والدته وابنته بعد تهديد عائلته له بالقتل نتيجة شعورها بالعار من اختياره للمسيحية ولاعتباره مرتداً عن الإسلام. بينما كان سبب الشعور بالحيرة هو رفض الكنيسة القبطية الأرثوذكسية قبول الجوهري عضواً بها وهو ما قد يبدو للمرء على أنه استسلام للواقع الذي يفرضه المتشددون الإسلاميون المنتشرون في ربوع مصر وأركانها الأربعة.

يبلغ ماهر الجوهري من العمر السادسة والخمسين، وقد اختار الرجل عن اقتناع وبمحض إرادته الحرة ومن دون إغراء أو إكراه أو تهديد اعتناق المسيحية التي بدأ يشعر بانجذاب لتعاليمها قبل نحو أربع وثلاثين سنة. حاول الجوهري تغيير الديانة في أوراقه الرسمية ولكنه فشل، كما فشل من قبله محمد حجازي وغيره من المتحولين من الإسلام إلى المسيحية في مصر المحروسة. ومن ثم قام الرجل بتحريك دعوى قضائية ضد الحكومة المصرية لإجبارها على الاعتراف بديانته الجديدة.

موقف الحكومة المصرية المؤسف والغريب يتناقض نصاً وروحاً مع الدستور الذي يؤكد في مادته السادسة والأربعين على أن الدولة تكفل حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية ويشدد في مادته الأربعين على أن المواطنين لدى القانون سواء، وأنهم متساوون فى الحقوق والواجبات العامة،وأن لا تمييز بينهم فى ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة. وعلى الرغم من هذين النصين الواضحين اللذين يحترما بوضوح حرية المصريين المتساوية في اختيار العقيدة، إلا أنه لا يبدو أن السلطات المصرية بكافة شعبها تكترث كثيراً بتطبيق واحترام الدستور بقدر اكتراثها بنفاق الإسلاميين المتطرفين الذين يأتي الإخوان المسلمون على رأسهم.

ولا يبدو لي أن الدعوى القضائية التي رفعها ماهر الجوهري ضد الحكومة ستثمر عن نتائج إيجابية إذ أن القضاء المصري عادة ما يلجأ إلى فهم المادتين الأربعين والسادسة والأربعين، اللذين ينصان على احترام حرية العقيدة، من منظور إسلامي ضيق مستنداً في ذلك على نص الدستور في مادته الثانية على أن الإسلام دين الدولة، وأن مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع. ولعل هذا يفتح من جديد ملف المادة الثانية من الدستور التي تقف عائقاً أمام أية محاولة جادة لتحقيق المساواة بين المصريين، وتعرقل كل الجهود المبذولة لتطبيق مباديء حقوق الإنسان التي يأتي على رأسها حرية العقيدة.

بعيداً عن الموقف المخزي للحكومة المصرية من حرية العقيدة والمساواة بين المواطنين المصريين، فقد شعرت بالخجل من الموقف الذي اتخذته عائلة ماهر الجوهري منه بعد إعلانه التحول إلى المسيحية، والذي اضطره للهرب والاختباء بعيداً عن أعين أشقائه وأهله. وبالإضافة إلى رغبة العائلة في تطبيق حد الردة على ماهر الجوهري، كما أفصح الرجل في حديثه لوكالة الأنباء الفرنسية، فمن المؤكد أن الأجواء القبلية التي تسيطر على المجتمع المصري هي التي دفعت عائلة ماهر الجوهري للشعور بالعار من تحوله إلى المسيحية. فالمصريون، كغيرهم من الشعوب الإسلامية، يرون أن الدين يجب أن يربط بين الأفراد على المستوى العائلي، وأن أي خروج عن الدين هو خروج عن الروابط العائلية، وأن أي خروج عن الروابط العائلية هو بمثابة جريمة عار تستوجب القتل لاسترداد الشرف والكرامة الجماعية للعائلة.

وعلى جانب أخر، لم يدهشني موقف الكنيسة القبطية الأرثوذكسية الرافض لقبول انضمام ماهر الجوهري لعضويتها، وهو الموقف الذي أكد عليه الجوهري في حديثه للوكالة الفرنسية، حيث ذكر أن رجال الدين التابعين للكنيسة رفضوا قبوله بسبب خشيتهم من أن يكون مجرد quot;طعمquot; من قبل أجهزة الأمن المصرية، وهو الأمر الذي دفعه للذهاب إلى كنيسة الروم الأرثوذكس التي قبلته عضواً بها. لم أندهش من موقف الكنيسة القبطية الأرثوذكسية من ماهر الجوهري لعدة أسباب يتعلق بعض منها بالضغوط الشديدة التي تتعرض لها الكنيسة باعتبارها الكنيسة التي يتبعها أكبر عدد من المسيحيين في مصر، وهي الضغوط التي تصل إلى درجة زرع الجواسيس بها والتربص بتحركاتها ومحاولة تصيد الأخطاء لرجالها. ويتعلق بعض أخر من أسباب عدم اندهاشي من موقف الكنيسة القبطية بتنازل الكنيسة إكراها/طوعاً عن دورها الكرازي، والتدهور الروحي والتعليمي الذي تشهده الكنيسة في السنوات الاخيرة الناتج عن تفرغ مجمعها المقدس بقيادة سكرتيره العام الأنبا بيشوي لمحاكمة وقمع كل مفكر مستقل وصاحب رأي حر في الكنيسة.

إن قضية التحول من الإسلام إلى المسيحية هي قضية شخصية مثلها مثل التحول من المسيحية إلى الإسلام. وإذا كان المجتمع المصري والحكومة المصرية يتسامحان مع التحول إلى الإسلام، فمن الضروري والمهم أن يتسامحا مع التحول عن الإسلام. فحرية العقيدة في مصر، كما في العالم الإسلامي، طريق لابد وأن يكون ذا اتجاهين. ولست أبالغ إذا قلت أن أهمية حرية العقيدة في مجتمعاتنا كأهمية الهواء الذي نستنشقه، وأن توافرها لا يقل أهمية عن توافر الخبز الذي نتناوله والماء الذي نشربه. فحرية العقيدة مرتبطة ارتباط وثيق بحرية رأي وحرية الفكر وحرية الإبداع، وهي جميعها تشكل الحريات التي تخلق الحضارات وتقود المجتمعات نحو التطور الاجتماعي والثقافي والعلمي.

لم يرتكب ماهر الجوهري وزوجته وابنته أية جريمة تستوجب العقاب الحكومي أو العائلي، وإنما مارس الرجل حقه الطبيعي بالتحول إلى المسيحية بعد اقتناعه الكامل بها، كما أكد الرجل. ولذا فلابد للحكومة المصرية أن تحترم إرادته إذا أرادت أن تقدم الدليل على تمتع المجتمع المصري بحرية العقيدة والمساواة والتسامح. وإذا كانت الحكومة المصرية ترفض إلغاء الديانة من الوثائق الرسمية لحجج أراها واهية، فإن عليها الالتزام بالنصوص الدستورية التي تنص على حرية العقيدة والمساواة بين المواطنين، وهي النصوص التي تضع الحكومة أمام مسئوليتها في تنفيذ القانون. لا شك في أن المجتمع المصري كغيره من المجتمعات العربية والإسلامية بحاجة ماسة لثورة اجتماعية تنهض به ثقافياً وفكرياً وعلمياً وتقوده إلى طريق الحريات وحقوق الإنسان والتسامح. ومن المؤكد أن كل الجهود التي لا تلتزم بتحقيق هذه النهضة ولا تقوده إلى هذا الطريق ستقف عاجزة عن قيادة المجتمع المصري إلى مستقبل أفضل.

جوزيف بشارة

[email protected]