خلقت الفتوحات الإسلامية العربية شعورا لدى بعض العرب بأنهم شعب الله المدلل وان البلاد الإسلامية بما فيها من موارد هي فيء فاءه الله لهم. حتى قيل عن السواد بأنه بستان لقريش الأمر الذي جعلهم يتعالون على أبناء الشعوب المفتوحة فكانت هذه البداية الرسمية للتيار العروبي القائم على العصبية للعرب والذي نشط كثيرا في العراق بعدما واجه مقاومة من سكانه الأصليين.

يلاحظ محاولة هذا التيار الذي يصف نفسه بالعروبي المحمومة لتجريد العراق من طابعه القديم وعده وطنا للعرب دون سواهم ومحاولة تجاهل الإرث الحضاري لسكانه القدماء والنيل من منزلتهم بما في ذلك سلب منجزاتهم العلمية وإحالة نسبتها إلى سواهم والادعاء بان مدن مثل الكوفة والبصرة وبغداد هي مدن بناها المسلمون وليست مدنا قديمة توسعت في عهد العرب لأسباب أدارية وعسكرية إلا أن موقف السكان الأصليين لم يكن على شكل واحد وهناك تيار أراد السير مع التيار العروبي من اجل كسب بعض المنافع ولقد أدى أتباع هذا التيار دورا كبيرا في مسار الحضارة العربية الإسلامية ولعل نشوء علوم الفقه والتاريخ والنحو قد جرى بدافع من رغبة هؤلاء في خلق واقع أكثر تساهلا والحصول على امتنان العرب والتنعم بحمايتهم خصوصا وان هذه العلوم تمس واقع العرب وحياتهم وبالتالي قد تكون هذه النزعة البداية الأساسية لفقه المذاهب السنية (الحنفية، المالكية، الشافعية) ونشوء النحو العربي بشقيه الكوفي والبصري علاوة على العلوم والمعارف الأخرى مما لها علاقة بهذا النسق أما الشكل الثاني فقد مثلته النزعة الرافدينية أو النبطية (الشعوبية) التي وجدت في سياسة الحكام العرب استفزازا لها واحتقارا لحقوق الشعوب الأصلية ما جعلها تنتفض على ذلك وتنهض من رقادها الأمر الذي يمكن ملاحظته منذ السنوات الأولى للغزو / الفتح العربي الإسلامي وان لم تأخذ آنذاك الطابع المباشر ومع أن الغالبية العظمى من العراقيين وربما بقية الشعوب الأخرى أيضا لم تكن آنذاك قد فهمت الإسلام كما نفهمه الآن ولم تصل بعد إلى الإيمان به أو الخضوع لولائه إلا أنها بالتأكيد تجاوبت مع اتجاه الأحداث وشاركت في معمعتها ما يجعلنا نقرا تاريخ الإسلام الفكري وحتى السياسي والاجتماعي والاقتصادي أيضا على انه صراع بين تيارين متضادين التيار العروبي الذي يمثله القبائليون العرب والتيار الشعوبي (الشعوب الأصلية) بالرغم من وجود تيار ثالث يمثل المبدأ الإسلامي وهذا التيار لم يكن واضح المعالم آنذاك ولم يظهر لنسقه أي تأثير في مسار الأحداث وبالتالي بقيت الساحة مفتوحة لصراع قومي عنصري قبل أن يتحول بالتدريج إلى صراع ديني أو مذهبي وان التطورات الفكرية على مسار هذا الصراع ما هي إلا تجليات وتجسيدات هذا الصراع وليس شكلا من إشكال التطور الطارئ لذلك علينا أن نفهم التيار الشعوبي ضمن سياق المرحلة التي ولد فيها مثلما علينا أن نفهم التيار العروبي أيضا وان ندرك بان النزعة الشعوبية لم تكن قاصرة على ارض العراق لكنها بالتأكيد حملت صفات وخصائص مختلفة عما هي عليه في العراق ربما لوجود نخبة اقتصادية وثقافية متنفذة من السكان الأصليين وقت مجئ الفتوحات / الغزوات العربية الإسلامية هذا ناهيك عن العوامل الأخرى التي ميزت العراق عن سواه ما جعله يمثل حاضنا كبيرا لمختلف الحركات والنزعات الفكرية والسياسية التي أخذت على عاتقها تفسير الإسلام بشكل يناسب قيمها وأفكارها عادين عملها هذا جزءا من الدفاع الذاتي الذي تمارسه الشعوب للإبقاء على تقاليدها وقيمها حية فهي جزء من المقاومة التي يفترض حصولها من أي ثقافة ضد ثقافة أخرى وقد تكون مرتبطة بعوامل مختلفة مثل قوة ومتانة الثقافة المقاومة ومرونة أو ضعف الثقافة الوافدة أو الغازية وبما أن الفتوحات الإسلامية العربية هي فتوحات عسكرية بالدرجة الأولى فأنها لم تحمل صفتها العقائدية ألا بعد وقت أخر لأننا لا نستطيع أن نصدق أن ألاف المجندين العرب وغالبيتهم من البدو كانوا يتحركون من اجل نشر مبادئ الإسلام أو بحافز أخروي وليس لنا أن نجادل على أن الكثيرين كانوا يقدمون الحصول على الغنائم على إدخال الناس في الإسلام ولعلهم عملوا على ذلك بالفعل من خلال تجاهلهم للهدف الدعوي وعدم الأخذ به غالبا حتى وجدنا أن السلطة ذاتها قد ألغت الحافز الذي وضع للداخلين في الإسلام وهو إعفائهم من الجزية فأصبحت الجزية قائمة على الجميع من غير العرب مسلمين أو غيرهم وهو ما حصل خلال العهد الأموي بالتأكيد ما دفع الكثير من أبناء البلاد المفتوحة إلى التمسك بدياناتهم القديمة وعدم الدخول في الإسلام إلى أن الغي هذا القرار في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز أو العباسيين عندها أصبح الدخول في الإسلام شائعا وملموسا وان لم يكن بتلك الكثافة التي صورها المؤرخون لكن مع ذلك هناك بالتأكيد من دخل الإسلام قبل هذا الوقت وحاول إن يتأقلم مع منطقه العقائدي ولان الإسلام لم يكن آنذاك إلا نصوص وتعاليم هي في معظمها غير مدونة فقد أصبحت هناك الكثير من التأويلات والقراءات المختلفة للإسلام ما جعلها عرضة للزيادة والنقصان ومحلا للجدل والنقاش الأمر الذي اشعر المؤولين بحريتهم في نطاق عقائدي لم يتعدى بعد مرحلة البدايات ولذا جاء الاضطهاد الأول عاما لأنه شمل جميع سكان المنطقة الأصليين مسلمين أم غيرهم ما خلق بالتالي ثنائية أثنية اسمها عرب / موالي وبالتالي لم يكن الصراع آنذاك إلا بين نزعتين متصارعتين النزعة العروبية والنزعة الشعوبية الأمر الذي يمكن تتبعه عبر المرحلة التي امتد على زمنها هذا الصراع وهي مرحلة العصر الأموي وبداية العصر العباسي.

باسم محمد حبيب