التعريب أو أنسنة العروبة..

مَفّهَمة الإعجاب
بدايةً أود الإعتراف بأنني أحد المعجبين بكتابات quot;د. علي حرب quot; الفلسفية و مقالاته و نصوصه الفكرية المتميزة، التي يقدمها لنا، بين حين و آخر، في إطار كُتُب فلسفية/ نقدية تحتوي أفكاراً نَيّرة أو مفاهيماً إبداعية أو منطوقات خارقة، تستعصي على المألوف أو البداهات الفكرية، المنطوية عادةً على خطابات آيديولوجية مُدعية الإنتساب الى عالم الفكر و الفلسفة أو العلم و المعرفة.
و هذا الإعجاب لا يتأتى مني إعتباطاً و لا يستدعي أن يكون كذلك طالما نساهم بدورنا نحن المتابعين و القُراء، مع الكاتب و المكتوب، في دمقرطة المنتوجات الرمزية، و نُمارس حقنا و قسطنا في تقييم النصوص قراءةً و تفسيراً أو تحليلاً و تأويلاً، و ذلك من خلال إختبار قُدراتنا الثقافية و دوافعنا المعرفية المُجردة من المنازع الآيديولوجية و الفئوية أو الطائفية و العرقية. بمعنى آخر، ليس الإعجاب أمراً يوحي وقوع المرء تحت سلطة الكتابة و الكُتب أو المعارف و المدارس، و بالتالي لايعني إستسلامه لسلطة الكاتب أو سلطان المفكر، و إنما يعني فيما يعنيه، قبل أي شيء، تفاعل القارىء مع مقروءه أو تقارب المتلقي من مُلقيه عبر تماهٍ رمزي و معنوي لحقائق معينة، هي أصلاً من صنع الذهن، مع حقائق واقعية غير مُستَبصَرة أو غير مشهودة بل لنَقُل غير مُستَنطَقة الى لحظة تجسيدها الفكري و اللغوي في كُتب أو مقالات و دراسات.. و بهذا المعنى، حينما نعبر من جانبنا، مثلاً، عن إعجابنا لفيلسوف أو مفكر ما، كما ينطبق علينا المثل هذا مع علي حرب، نسوغ هذا الموقف بمَفّهَمَة الإعجاب نفسه، أي بهذا التفاعل الذهني و الفكري و المعرفي مع ما أنتجه المُنتج الرمزي، أي الكاتب، من مفاهيم و أفكار أو آراء و طروحات، نفترض أو نتفق، تاريخياً، على أنها مُعكسة أو مُستجيبة لواقع مشكلة و قضية لم نبلغ من قبل الى تحديد حقيقتها. وقد يكون سبب إستحالة هذا البلوغ هو الحقيقة ذاتها، أي خشية بعضنا مما تمليه الحقائق، أو كشفها و إكتشافها، علينا من أمور، تعَُرِض أحياناً مصالحنا للخطر أو مواقعنا للتهديد، الأمر الذي يُجابه في المقابل أو يُقاوم من قِبَلناً بخلق حقائق أُخرى بديلة أو وقائع أخرى معيقة للحقيقة المُهدِدة و الخطيرة.


هذا هو أمر الإعجاب عندنا أو مفهومه الحقيقي فما بالك إذا كان المفهوم متسلحاً بنماذج معينة تشهد على أن الفيلسوف اللبنانيquot; علي حربquot; يستحق هذا الإعجاب و الثناء نظراً لإلتزامه المهني _ و هو يعتبر الفلسفة مهنة _ بما يُبرر وجود الفلسفة في الحياة و جدواها، و كذلك ممارسته للفكر الفلسفي بطريقة حرة و مبدعة تُؤَمّن له التفوق و الوصول الى حقائق لم نفكر فيها أو، كما يقول هو، نمتنع عن التفكير فيها، و ذلك لأسباب سياسية و إجتماعية أو ثقافية و عقيدية تعوّدنا على أن نتستر عليها بقدر ما تتستر هي على عيوبنا و مآزقنا أو إخفاقاتنا و خساراتنا، هذا في الوقت الذي يقودنا هذا الفيلسيوف الى تلك الحقائق المغيبة أو يكتشفها دونما عوائق و من خلال تشديده على لغة الفهم و تفكيك النصوص و الخطابات أو المزاعم و الشعارات، و قد يكون خير مثال هنا على إستدلال حقيقة ما نقدمه من صورة حسنة لهذا الفيلسوف، هو موقفه الفكري و تشخيصه النقدي لمسألة التعريب بين الأمس و اليوم أو بين بداياتها و نهاياتها، و وقوفه الواقعي على آمال و مآل هذه المسألة التي يخشى حتى الكثير من الباحثين و المفكرين في العالم العربي من التحدث عنها أو إثارتها حتى الآن علماً أنها مسألة مهمة تمس سمعة ثقافة بل حضارة برمتها بقدر ما تقدم و تُنتِج صور مختلفة و متباينة لنفسها لدى الفاعل و المفعول به.


شاهد على الحقيقة
ففي هذا المجال و عن مسألة التعريب، يقول لنا الفيلسوف علي حرب، مثلاً، في كتابه المعنون (أسئلة الحقيقة و رهانات الفكر): نحن العرب مضى علينا حين من الدهر كانت لنا فيه هيمنة و سيادة و كان لنا تفوق على سائر الأمم. فبعد الحدث القرآني و بفعله تمكّنا من فتح العالم و الإستيلاء على معظم دوله و ممالكه، ففرضنا لغتنا و أدبنا و شريعتنا على اللذين صدقوا دعوتنا.. و لقد خلعنا أوصافنا على أمم و شعوب لا تزال حتى الآن تسمي أبناءها بأسمائنا و تمارس طقوسها و شعائرها بلغتنا و آياتنا، يومئذ قدر لنا أن نعرب كل شيء، بما في ذلك المجال القدسي و الغيبي.. و بالطبع يعتبر علي حرب ذلك العصر أو الزمن بالمعجزة و الفيض، اي زمن القوة و التقدم كما يقول، أو الإبداع و الإزدهار، و يسوغ هذا الرأي و القول بإختلاف طبيعة الإنسان العربي في تلك الأزمان إذ أنه يرى أن هذا الإنسان كان إنساناً صانعاً و فاعلاً و كان عقله هو الحاكم لا المحكوم عليه، كما كان يرتد على النص، إن كان إلاهياً أم إنسانياً، و يخضعه لمنطقه و أستراتيجيته بقدر ما كان مهتماً بتأسيس رؤية جديدة للنشأة و المصير، للحق و الوجود، للمتعالي و المتناهي، للعقل و الجسد، للواقع و المرتجى، و يعني الكاتب هنا ذلك الزمن الذي أستطاع الإنسان العربي أن يبتكر فيه نموذج ثقافي يعتبره الكاتب بمثابة مخرج تاريخي للعرب من عزلتهم و قصورهم بدليل أنه كان نموذجاً قوياً فتحوا به الكون بقدر ما أثبتوا به فاعليتهم في الفهم و التفسير أو العمل و التدبير، و لا مراء من أن مفكرنا يقصد ذلك الزمن الذي يولد فيه الحدث القرآني،ذلك الحدث المنقلب للتاريخ في الجزيرة العربية و العالم بشكل عام، و لكن الكاتب يكتفي في كتابه بإعجابه للأنسان العربي في ذلك الدهر و النموذج الثقافي الذي أنتهجه في تعريب العالم ليحيلنا الى النهايات و الخواتم، أي أستنفاد طاقة ذلك النموذج التاريخي الذي قدمه العرب في تاريخهم العريق، مذكراً أنه منذ زمن، ما عاد يشكل الملهم المحرك أو المرجع الصالح أو المعيار الناجع، كما يضيف، و هو يشخص مآل عملية التعريب و مصيرها، أن السحر أنقلب في نهاية الأمر على الساحر، و يعني من هذه العبارة بالنص: أن التعريب صار تقليداً و تكراراً فيما بعد، أي أنه في حين كان إنفتاح و تحرر و مظهر حضور و تألق، أمسى أداة قمع و إنغلاق و مظهر تراجع و إنحطاط، الأمر الذي أدى الى إضعاف و تقهقر العرب، و هكذا كما يقول الفيلسوف، تحولت المعجزة الى عجز و الى إجتراح المعاني و الأفكار الى جمود الفكر و خراب المعنى..


على هذا النحو، يُقارب علي حرب، بجراءة تامة، حقيقة التعريب و واقعه عبر نظرة نقدية و منهج فكري يُقارن بهما بدايات المسألة مع نهاياتها بقدر ما يشخص العلل و يبين الأسباب، و هذا الموقف للكاتب لايعني في نظري أنه ما عاد يؤمن بأحد أبعاد هويته الإجتماعية التي يذكرها في كل مرة على أنها عربية، و لا يعني التنظير للكف عن مطامح التعريب أو اللعنة على العروبة، و إنما يعني فيه، كما أفسره هنا، تذكير إلأنسان العربي بأمر في غاية الأهمية، إن لم نقل مصيرية، و هو أن ثقافة المجتمعات العربية و القيم التي تحملها أو حضارة الإسلام و المفاهيم التي يٌمعّلِمُها لا تستطيع مقاومة العصور و التواريخ التي تعودت، بفضل الحداثة الفكرية و المادية و التقنية، أن لاتسير و لا تتحرك الإ بإخضاع كل كائن و موجود للتجديد و التغيير، وذلك مروراً ببنى الفكر و العقيدة أو السياسة و الإجتماع أو العلم و المعرفة، الى تقاليد العيش و تدابير الحياة مادية كانت أو إقتصادية، الأمر الذي يوحي الكاتب بأن الإنسان العربي المعاصر لم يفلح فيه و لم يستوعب شروطه و مفاتيحه أو خياراته و دلالاته، و كان مآل ذلك، كما يذكرنا به الكاتب كلما تحدث عن الفجوة الحضارية التي حصلت بين العالم العربي و الإسلامي و الغرب، هو التخلف و التأخر أو التبعية و الإستسلام أو اللجوء الى القمع و البطش أو التشبث بالتمرد و الإرهاب و بالمحصلة التشتت و التفكك. هذا في الوقت الذي تحتاج فيه المجتمعات العربية بشكل عام الى إعادة النظر بمنظومة معارفها و قيمها أو بثقافاتها المعزولة و المحلية أو بأنظمتها و حكوماتها لترى فيها مكامن العيوب و مساوىء المشاريع أو مخاطر السياسات و مجازر السلطات. و ما يؤكد عليه كاتبنا، علي حرب، في مقال شيق له في هذا الكتاب، كما في كُتبه و مقالاته و نصوصه الأخرى الفكرية و النقدية، لا يتعدى إلا ذكر هذه الحقائق و الأمور، أي حاجة العالم العربي الى تأسيس منطق جديد لممارسة العروبة و التعريب، منطق يُحترم فيه الآخر و يؤنسن به الدعوات و المشاريع، وذلك بالطبع، بعيداً عن التعصب و التوتر أو القمع و الطمع و هذا ما نؤيد فيه فيلسوفنا اللبناني د. علي حرب و نعتقد أنه يفيد الحالة العراقية و يحث قواه العربية على تجنب أي ممارسة خاطئة للعروبة أو أي نفي للمختلف قومياً و عرقيا أو مذهبياًو طائفياً و ضرورة القبول بجميعهم تدعيماً لأستراتجيات عربية أبرزها هي قطع الطريق أمام أي إستغلال أجنبي للأزمات و النزاعات السياسية و المجتمعية الداخلية التي تشهدها منطقتنا الحامية بالصراعات، منطقة الشرق الأوسط.

عدالت عبـدالله

* كاتب و باحث كُردي عراقي