منذ بداية ما يعرف بquot;النهضة العربية الحديثةquot;، أي منذ استعادة الدول العربية لاستقلالها عن الاستعمار الغربي، عرفت الساحة الثقافية والفكرية العربية عدة تيارات تنويرية. و لم ينجح أي من هذه التيارات في إنهاء حالة الاستبداد التي تطبع الأنظمة العربية بدرجات متفاوتة. و من هذه التيارات ما انتهى إلى الزوال و التلاشي و بقي الاستبداد العربي في مكانه لم يتزحزح و إنما ـ أكثر من ذلك! ـ استطاع التكيف مع مختلف الظروف و المتغيرات الدولية و الإقليمية و الداخلية. و بدل أن يخلق التنويريون العرب وعياً اجتماعياً مناهضاً للاستبداد استطاعت الأنظمة الاستبدادية العربية أن تخلق وعياً اجتماعياً مسانداً لها و مناهضاً لكل محاولات التنوير و الدمقرطة و الانفتاح. و تتعدد أشكال هذا الوعي الاجتماعي المساند للاستبداد بين العزوف السياسي، و الفهم القَدَري الاستسلامي، و العدمية المطلقة بمختلف تجلياتها. هذا، بينما يظل الوعي التنويري المناهض للاستبداد محصورا في بعض النخب الثقافية و الفكرية و السياسية.
هذه المقدمات الموضوعية الملموسة في الراهن العربي تدفع إلى التساؤل عن سبب بقاء الخطاب الثقافي و الفكري التنويري أسير النخبة دون أن يستطيع الوصول إلى الجماهير العريضة. و السؤال تتفرع عنه، بالضرورة، أسئلة أخرى ترتبط بعجز النخب الثقافية و الفكرية و السياسية التنويرية العربية عن التأثير الملموس في محيطها الاجتماعي المباشر في ظل ما تتيحه الثورة الرقمية من إمكانيات هائلة للتواصل.


محاولة الإجابة عن هذا السؤال ـ و عن الأسئلة التي تتفرع عنه ـ ترتد في اتجاه النخبة ذاتها باعتبارها منتجة خطاب التنوير أكثر مما ترتد في اتجاه الجماهير باعتبارها quot;مستهلكةquot; لهذا الخطاب. ذلك أن الخطاب التنويري العربي يشترط مخاطباً بمواصفات معرفية لا تمتلكها إلا النخبة ذاتها. و لذلك يظل ـ كلما توهم أنه يصل إلى الجماهير ـ يراوح مكانه في أوساط النخبة و لا يغادرها. و مقابل هذا ينجح الاستبداد في إنتاج خطاب قابل للاستهلاك على أوسع نطاق، مستغلا في ذلك الدين و العلاقات الاجتماعية والإنتاج الفني و الثقافي الرديء. و هو ما ينتج عنه، في آخر المحصلة، تعميم الذوق الساقط و الفهم السطحي و إنتاج quot;رأي عامquot; سهل الانقياد.


إن الفكر التنويري، و الثقافة التنويرية، في العالم العربي ـ و بقدر ما يعيشان أزمة خطاب ـ يعيشان في الآن نفسه أزمة مخاطب. و أول مهمة من مهام التنوير عربياً هي بناء المخاطب نفسه عبر إنتاج آليات مضادة للاستبداد انطلاقاً من الخصوصيات في التقائها مع القيم الإنسانية الكونية، أي إشاعة فهم مغاير للدين و تحديث العلاقات الاجتماعية و الارتقاء بالذوق العام. و من الواضح أن بناء مخاطب قابل لاستيعاب خطاب التنوير هو، في حد ذاته، عمل تنويري بامتياز.


لقد ظلت النخب التنويرية العربية تتعامل مع المخاطب باعتباره ذلك المفتقر إلى المعرفة مقابل نخبة quot;عارفةquot; أو تعتقد ـ حقيقة أو وهماً ـ أنها كذلك. و على قاعدة النخبة quot;العارفةquot; و المخاطب quot;الجاهلquot; تأسست العلاقة بين النخبة و الجمهور العريض. و ساعد في ترسيخ هذا الوضع شح المعلومة التي لم تكن متاحة أمام المخاطب و كان الحصول عليها وقفاً على النخبة. أما في عصر الثورة الرقمية فتفوق النخبة باعتبارها quot;عارفةquot; على المخاطب باعتباره quot;جاهلاquot; لم يعد قائماً. و من هنا لم يعد من الممكن بتاتاً التوجه إلى المخاطب إلا باعتباره شريكاً في المعرفة و من تمَّ شريكاً في إنتاج الخطاب التنويري نفسه. بمعنى آخر، فالخطاب التنويري العربي راهناً و مستقبلاًً ليس خطاباً قابلا للصياغة في كهف أفلاطوني نخبوي ليتم بعد ذلك تصريفه إلى جمهور مستهلك لا سبيل له إلى دخول كهف المعرفة. بل إن الخطاب التنويري الممكن هو الذي يبدأ من الاستماع إلى المخاطب و محاورته و جعله طرفا في بناء الخطاب و في ترويجه أيضا. إنه مخاطب واعٍ تماماً بخصوصياته، و بالعالم من حوله، و يملك كل الوسائل للتواصل مع سائر الثقافات و التجارب الإنسانية. و هو بحكم ذلك مخاطب عارف و ليس مخاطباً جاهلاً و لا يمكنه استيعاب الخطاب التنويري أو غيره إلا ضمن ما يعرف، و ضمن الاعتراف به كمخاطب عارف.


إن الاستبداد يقوم على فكرة الحاكم الفرد، المطلق، الذي يعرف وحده كيف يحكم. و عندما يلبس المثقف التنويري العربي لبوس المثقف الفرد، المطلق، الذي يعرف وحده ما هو كائن و ما ينبغي أن يكون، فهو لا يعدو كونه يمارس استبداداً من صنف آخر. و بدل أن يصبح الخيار، لدى المخاطب، بين الاستبداد و التنوير فإنه يتحول ـ شعورياً أو لا شعورياً ـ إلى خيار بين استبداد و استبداد. و نتيجة ذلك فهو يفضل ـ شعورياً أو لا شعورياً ـ ذلك الاستبداد القائم على الاستبداد البديل، أي أنه يفضل الاستبداد الذي يعرفه على ذلك الذي لا يعرفه.
حالة المثقف quot;العارفquot;، أو المفكر quot;العارفquot;، مقابل المخاطب quot;الجاهلquot;، هي حالة استبدادية و استلابية بكل المقاييس. أما حالة المثقف العارف في مقابل المخاطب العارف فهي حالة مغايرة تماما: إنها حالة تشاركية تتيح لكل طرف أن يكون فاعلاً في إنتاج الثقافة و الفكر و الفن و غيرها، و تنسجم تماماً مع روح عصر أصبح فيه بإمكان كل فرد أن يجد مساحة لإنتاج خطابه الخاص بلمسات قليلة على الأزرار و بضع نقرات على فأرة الحاسوب.


فقبل الثورة الرقمية كان الولوج إلى هيبة المجلدات، و الكتب، و الجرائد و المجلات المقروءة، و القنوات الإذاعية و التلفزية، و السينما، حكراً على النخبة. أما في ظل التطور المتسارع و المذهل للتكنولوجيا الرقمية فقد انهارت كل الصروح الورقية التي كانت، بالأمس، تصنع quot;هيبةquot; المثقف quot;العارفquot;. و مقابل ذلك أصبح المجال مفتوحا أمام كل الطاقات التي كانت مكبوتة بالأمس لكي تعبر عن ذواتها بكل حرية، أي لكي تنتج خطابها على مستوى عالمي.


إن كثيرا من أفراد النخبة الثقافية و الفكرية العربية الذين يتباهون بإنتاجاتهم الفكرية و الثقافية لم تتعد مبيعات كتبهم بضع مئات أو بضعة آلاف على أكبر تقدير. أما اليوم فبإمكاننا أن نرى الأعداد الهائلة من القراء/الزوار التي تحققها مدونات و مواقع شخصية لأفراد لم يكن لهم سبيل إلى ولوج عالم النشر الورقي. و إذا كان هذا يعني شيئا فإنما يعني، في المقام الأول، أن حدود النخبة أصبحت حدودا غير quot;آمنةquot; و أن الولوج إلى النخبة أضحى متاحاً أمام كل من يملك المقومات الضرورية. و إنتاج الخطاب لم يعد حكرا على الصالونات و دور النشر و وسائل الإعلام التقليدية و إنما أضحى مجالا مفتوحا أمام الجميع. و تأسيساً على ذلك فالخطاب الثقافي و الفكري الذي كان بالأمس خطاباً عموديا، و منبرياً، من نخبة quot;عارفةquot; إلى جماهير quot;جاهلةquot;، لم يعد ممكناً له أن يوجد و يُنْتَجَ إلا من حيث هو خطاب أفقي، تفاعلي، و تشاركي، بين طرفين عارفين.


هذا التوسيع لدائرة النخبة ـ حتى و إن كان لا يرضي الجميع ـ ينجم عنه تحرر المخاطب من دائرة التلقي السلبي التي كانت تحصره داخلها وسائل الإعلام و الاتصال و النشر التقليدية. فالمتلقي الذي كان يجلس أمام الشاشة أو الجريدة أو المجلة أو الكتاب، مجردا من أي وسيلة لإيصال رأيه، صار اليوم قادرا على التعبير عن وجهة نظره فيما يقرأ و يسمع و يشاهد على نطاق كوني دون أية قيود. و سواء أحب ذلك المثقفون المنبريون أم كرهوه فهو لم يعد متلقيا سلبيا (Passif) و إنما صار متلقيا فاعلاً (Actif). إنها حالة من استعادة المخاطب لقدرته الأصلية على التأثير كمخاطب مباشر. و هي حالة لها آثارها الحتمية على آليات إنتاج المعرفة و الثقافة الإنسانيتين بشكل عام، و على آليات إنتاج الخطاب التنويري العربي بشكل خاص.


يفرض هذا الوضع الجديد للمخاطب على النخبة التنويرية العربية أن تغادر تجاويف الخطابات المغرقة في التنظير، و اللغة المغرقة في الغموض، إلى رحابة اللغة المشتركة مع الجمهور؛ كما يفرض عليها أن تغادر صالوناتها المخملية إلى خشونة الواقع اليومي الذي يعيشه الفرد العربي بكرامته المهدورة، و حقوقه المنتهكة و المستلبة، و مستقبله الغامض. و على النخبة، في خروجها هذا، أن تكون مستمعة في المقام الأول لأن quot;الممارسين يستطيعون دائما أن يلقنوا المنظرين درساً لا ينسىquot; حسب تعبير بليخانوف.


إن الفرد العربي ليس كارهاً للحرية، و لا للديموقراطية، و لا للحداثة، و لا للتعايش السلمي مع باقي الثقافات و الحضارات الإنسانية. و لا يوجد شعب عربي واحد، من الماء إلى الماء، لم يقدم آلاف الشهداء و المعتقلين و المختطفين و مجهولي المصير في سبيل الحرية و الديموقراطية و الحداثة و القيم الإنسانية النبيلة. لكن الفرد العربي يريد ديموقراطيته و حداثته اللتين ينتجهما في انسجام تام مع خصوصياته الثقافية و الحضارية، أي أنه، في آخر الأمر، لا يقبل إلا بما يكون شريكاً فيه. و عليه، فالتنوير لا يمكن أن يكون إلا فعلاً جماعياً مشتركاً تساهم فيه النخبة و الجمهور بندية كاملة، و ضمن صيغة من التكامل العضوي التي تكفل لكل منهما أداء دوره كاملا غير منقوص.

عبد الرحيم الوالي

* صحافي و كاتب مغربي
[email protected]