بعد تحرير كردستان من قبضة النظام الدكتاتوري الصدامي، إنتشرت في كردستان ظاهرة رفع صور (شهداء) الثورة الكردية في شوارع المدن والأقضية والنواحي،وتسابقت الأحزاب الكردية لإحتلال الساحات والتقاطعات وواجهات المقرات والدوائر لرفع تلك الصور عليها،وكانت تلك الصور تقابل في حجمها الجداريات التي يصنعها فنانو النظام السابق لسيدهم الدكتاتور ويعلقونها في الشوارع والساحات وأمام واجهات الدوائر الحكومية. وكنت أمقت تلك الصور كما مقتها غالبية العراقيين..

وأتذكر قولا قرأته في صحيفة ما يقول قائلهquot; إذا زرت بلدا ورأيت صور رئيسه معلقا في الشوارع، فاعرف أن هذا البلد يحكمه دكتاتورquot;؟!. ولا أدري لماذا إستنت الأحزاب الكردية وهي ضحية للأنظمة الدكتاتورية بهذه السنة المقيتة والموروثة من الدكتاتورية الصدامية، ودماء شهدائها روت كل شجر وحجر في كردستان طوال أربعة عقود،فلا أعتقد أنها كانت بحاجة الى أن تستن بتلك السنة المقيتة.
وكنت أتساءل مرارا وأنا أمر قرب نصب لأحد ( الشهداء) أو صورة مكبرة له،عما يختلف به ذاك عن مئات الألوف من الآخرين الذي قدموا أرواحهم في سبيل قضية شعبهم، فهل هناك شهيد عادي لا يستحق أن ترفع له صورة،وشهيد آخر ( سبيشال ) تقام له جدارية كبيرة في الساحات والشوارع؟!.
وتمنيت وأنا أمشي في شوارع مدينتي بين تلك الصور والجداريات، لو أن قادتنا فكروا بإقامة متحف وطني كبير ويسمونه ( متحف الثورة) توضع فيه صور جميع الشهداء من دون إستثناء، أو بناء جدارية كبيرة على غرار جدارية رأيتها في الفضائيات ولا تسعفني الذاكرة أين كانت وفيها أسماء الجنود القتلى في حرب أو معركة، لكي يطلع الزوار الأجانب على حجم التضحيات التي جاد بها الشعب الكردي من أجل نيل حريته..

ظلت تلك الصور منتشرة في شوارع المدن وساحاتها في كردستان حتى إندلع القتال الأخوي في منتصف التسعينات، فأزيلت صور شهداء هذا الحزب وديست تحت الأقدام، لتحتل مكانها صور لشهداء ذاك الحزب؟؟!!. حتى الشهداء أنتقم منهم وهم أموات، ولعلي لذلك كنت على حق بمقتي لرفع صورهم في شوارع المدن..
هذا كان رأيي في تلك الظاهرة البغيضة، وكنت أعتقد ومازلت بأن رعاية أبناء الشهداء وتوفير الحياة الحرة الكريمة لعوائلهم، هي أكرم وأفضل تقدير لعطاءات هؤلاء الذين قدموا أرواحهم في سبيل شعبهم، ولكن للأسف ما نراه اليوم في كثير من زوايا كردستان من الإستهانة بتضحيات جيل الثورة سواء من ماتوا أو من بقي منهم على قيد الحياة والتي تصل في بعض الأحيان الى حد إنتهاك أعراض عوائلهم والحط من كرامتهم، يجعلنا نكفر بكل القيم النضالية التي ناضلنا من أجلها سنين طوالا.

قبل أيام تم هدم نصب تذكاري مجسم لقيادي عسكري كردي كان من أوائل الملتحقين بصفوف الثورة الكردية الجديدة التي إندلعت في جبال كردستان بعد إنهيار ثورة أيلول عام 1975،وقاد أولى المفارز المسلحة للبيشمركة ضد النظام الدكتاتوري في تلك الفترة، ونصب هذا التمثال وهو للشهيد جمال علي بابير في مدينة السليمانية منذ التسعينات، ولكن خلال هذه الإيام تم هدم التمثال بأمر من السلطات البلدية، وشوهدت بقاياها وهي مرمية فوق حاوية نفايات داخل إحدى شوارع المدينة؟!.ومن يدري لعل أحد الفاسدين وأصحاب النعم الحديثة أراد أن يقيم في موقع التمثال مشروعا لنادي ليلي، أو صالة قمار، أو يبني له فيللا لقضاء لياليه الحمراء؟!.
هذا المنظر البشع لمصير أحد رموز الثورة الكردية التي يتنعم بثمرتها اليوم قلة قليلة جدا من المنتفعين والطفيليين والسماسرة والمتاجرين بدماء الشعب الكردي، هز وجداني على رغم ما سبق وأن ذكرته في صدر المقال من موقفي برفض وضع الجداريات والصور لرموز الثورة في شوارع المدن، لكن هذا التصرف الأخرق ومن أي كان إنما يدل على نوايا بعض الفاسدين في السلطة الحالية لمسح كل أثر له علاقة بالماضي الثوري لهذا الشعب، وهو تصرف يعكس حقيقة النفوس المريضة من متاجري هذا الزمن الأعجف في كردستان التي تستهين بكل القيم النضالية والمثل الإنسانية التي بنيت عليها مباديء الثورة الكردية، وكان يفترض بالقائمين على هذه الجريمة أن يكرموا هذا القيادي برفع نصبه بكل تقدير وإحترام ونقله الى مكان آخر يتناسب مع تكريم رموز الثورة، وليس رمي أنقاضها في حاويات القمامة؟!.

في هذا الزمن ليس غريبا أن نجد حفنة من المنتفعين والمتزلفين وهم يتبوؤن أرفع المناصب في الحكومة والأحزاب الكردية، دون أن يكونوا قدموا شيئا لهذا الشعب، وكذلك نجد غيرهم من رفاق الأمس وهم يتنكرون لكل القيم والمباديء التي قدم هذا الشعب دماءا غزيرة من أجلها، فيمرغون أنفسهم في وحل الفساد، ويصادرون القوت من الأفواه الأطفال واليتامى والثكالى، ويتنعمون بخيرات هذا البلد، وثلاثة أرباع شعبه جياع حفاة عراة، لا يجدون قوت يومهم أو ما يسترون به عوراتهم؟!.
هكذا وصلت بنا الحال في ظل إنعدام كل القيم الإنسانية والأخلاقية بين الفاسدين الذين أخذتهم العزة بالإثم حتى غدروا برفاق الأمس، وتنكروا لتضحياتهم، فإنتهكوا كرامة هذا الإنسان الكردي الذي كان يعيش في زمن الدكتاتور صدام حالا أفضل من هذا الحال، فهل هناك جريمة أكبر من جريمة سحق كرامة الإنسان؟؟!!..

من يصدق أن في كردستان اليوم الآلاف من العوائل التي تعيش على مخلفات القمامة، وحكومتهم تتسلم كل سنة أكثر من عشرة مليارات من الدولارات؟!.
من يصدق أن حكومة مستقلة تحكم الإقليم منذ سبعة عشر عاما وهي عاجزة عن توفير الكهرباء، ويعتمد سكانه على المولدات الأهلية والمولدات المنزلية لإنارة بيوتهم؟!.
من يصدق أن مئات الأطنان من المواد الغذائية تدخل من المنافذ الحدودية يوميا، وهي مستوردة من قبل تجار هم في الغالب من أعوان الحكومة أو أزلامها، وهي مواد غذائية فاقدة الصلاحية للإستهلاك البشري تدخل الى أجوافنا من دون أن تكون هناك عقوبات رادعة ضد هؤلاء التجار، حتى بتنا نرتعب مما نأكله أو نشربه بسبب تجرد هؤلاء التجار من ضمائرهم الإنسانية، والحال أن المستشفيات وعيادات الأطباء تعج بالمرضى كل ساعة بسبب إستهلاكهم لمواد تعاف أنفس الحيوانات من تناولها؟!.
لقد كتبت مرارا عن أوجه الفساد المستشري في كردستان ولا من مجيب، فيبدو أن حكومتنا الإقليمية ساهية عما يرتكب في كردستان من جرائم بحق الإنسان، وهي في شغل عن هموم الناس، ولعله شغل عد الملايين أو المليارات الهابطة على رؤوسها من بغداد؟!.
إذن هو ذاك، السحت الحرام الذي ينسى الإنسان إنسانيته، ويفقد المتاجرين بمعاناة الناس ضمائرهم، فيتنكرون لكل قيم النضال الثوري الذي دفع هذا الشعب ثمنا باهضا لتحقيق
في الزمن الخطأ
وفي المكان الخطأ؟!!..

شيرزاد شيخاني
[email protected]