(لكل حادث حديث) هي من أقدم عبارات التهديد فى اللغة العربية، وهذا ما قاله اليوم (الجمعة22 آب) المدعو (لواء سميسم) مسئول الهيئة السياسية للتيار الصدري حول موضوع الاتفاقية العراقية الأمريكية ونشرته ايلاف صباح اليوم. وقال أيضا: (خياراتنا مفتوحة اذا تغيرت الظروف)، وشدد على (أن المقاومة مشروعة ما دام هناك احتلال). وهذا تهديد واضح للحكومة المنتخبة من قبل الشعب وشارك فى انتخابها (الصدريون) أنفسهم.

ولقد عجبت لتهديد ما يسمى ب(حزب الاستقلال) حيث خاطب ناطقه اليوم أيضا الشعب العراقي قائلا (لقد آن الأوان لأن تستمر ثورتكم الكبرى ) و (نطالب شعبنا بالوقوف بجانب مقاومتهم الوطنية الباسلة).

وتعجبت أكثر من انتقاد السيد ابراهيم الجعفري الذى حل السيد المالكي محله فى رئاسة الحكومة بعد الانتخابات، وهما من نفس الجبهة، ويظهر أن حلاوة الحكم دعته الى معارضة زميله لا غير.

ولا ريب أن الانتقادات ستترى اليوم وغدا وبعد الغد. ان الانتقادات مشروعة ومفيدة اذا كانت تصب فى المصلحة العامة، وهي احدى أسس الديموقراطية، ولكن اذا أساء المنتقدون استعمالها وحولوها الى تهديد ووعيد ستصبح دعوة للفوضى والاضطرابات واثارة الجهلاء والمغفلين، كما حصل فى العراق قبل حوالي ستين عاما، وترتبت عليها نتائج ما زلنا نعاني منها الأمرين.

ان أية اتفاقية (أو معاهدة) تعقد بين طرفين تكون عادة لصالح كلا الطرفين المتعاقدين، وبطبيعة الحال ستكون فى صالح الطرف الأقوى أكثر مما هي فى صالح الطرف الأضعف. القوات الأمريكية سيطرتها محكمة على البلد، والجيش العراقي لا يمكن قطعا مقارنته بالجيش الأمريكي. والشعب العراقي مقسم بين طائفيين دينيين وطائفيين سياسيين، وأكراد ينتظرون الفرصة المناسبة لاعلان استقلالهم التام وانفصالهم عن العراق، وتركمان يحاولون انشاء كيان لهم ويعتبرون الأكراد أعداء لهم وهم اليوم أعلنوا عن معارضتهم نكاية بالأكراد أصدقاء الأمريكان كما يقولون، وقوات (صحوة) تستلم رواتبها من الأمريكيين، وشيوخ عشائر عودهم صدام و الأمريكان على اقتناء أفخم وأحدث السيارات وبناء القصور الشاهقة وشراء (الفلل) خارج البلد وخصصوا لهم الرواتب الدسمة، وأفراد العشائر منهم من يطيع شيخه اطاعة عمياء ومنهم من يطيع مرجعه الديني ولا أحد فيهم يحسب أي حساب للحكومة. فما الذي يستطيع المالكي أو أي رئيس وزراء آخرعمله فى مثل هذه الفوضى العارمة؟


ولو فرضنا جدلا أن الأمريكان سيخرجون غدا من العراق، واذا حصل ما يستدعى عودتهم فمن سيستطيع منعهم ؟ لنكن واقعيين ولا نغالط أنفسنا.

أمام الحكومة طريقان، الأول التوقيع على الاتفاقية التى حتى لو كانت كلها فى صالح العراق ستقابل بالرفض من قبل المعارضين الحاليين الذين سيفعلون كل ما فى وسعهم لاسقاط الحكومة والحصول على السلطة. والثاني هو رفض المعاهدة وهذا يعنى بقاء القوات الأمريكية فى العراق بدون تحديد لجلائها وخسارة اية فائدة يستفيد منها العراق من الاتفاقية، وستستفحل المعارضة ضد الحكومة اذ سيعتبر الرافضون ان الحكومة ضعيفة بسبب تنازلها لهم ورفض الاتفاقية.

لا أظن أن المعارضين على درجة من الجهل ndash;باستثناء الصدر- بحيث لا يدركون أن رفض الاتفاقية سيعيد العراق الى أسوأ مما كان عليه قبل عامين، و تتعطل أمور الدولة، فتنعدم الخدمات العامة ولن يكون هناك كهرباء ولا ماء صالح للشرب، ولا دواء ولا أطباء، ويعود القتل والاختطافات والتهريب أسوأ بكثير مما كان عليه، وتسيطرعصابات القتل والنهب والاغتيالات وتجوب الشوارع بأعداد أكبر من السابق، والخلاصة: كارثة ليس لها مثيل، وسيضطر الأمريكان الى جلب جنود أكثر وشركات أمنية اضافية مع جنودها المرتزقة. فهل بقي للعراقيين أعصاب لتتحمل المصائب الجديدة اضافة للقديمة ؟ وبعدما بدأ العراقيون مؤخرا يتنفسون الصعداء، كما بدأ المهاجرون يعودون للمساهمة فى بناء البلد المخرب، وبدأ المهجرون بالعودة الى مساكنهم التى هجروا منها.

انى أسأل المعارضين: ألا يوجد أمل فى أن تصحوا ضمائركم وترحموا هذا الشعب المعذب المسكين ؟ هل تنشرح نفوسكم لآلام الناس ؟ هل يسر عيونكم النظر الى جيوش اليتامى والأرامل والثكالى والمعوقين من أبناء شعبكم ؟

صحيح ان ما عملته الحكومة غير كاف لسد احتياجات المواطنين الأساسية، ولكن من كان يستطيع أن يعمل أكثر فى ظل الأوضاع الصعبة الراهنة ؟

لقد ضيعنا فرصا كثيرة فى الماضي، فلا تضيعوا هذه الفرصة، ولا تستمعوا الى الدجالين الذين غشوكم وخدعوكم لسنين طويلة. انظروا الى العالم حولكم: فى صباح كل يوم يخرج العامل الى عمله، والموظف الى دائرته، والتلميذ الى مدرسته وكلهم فرحين جذلين باستقبال اليوم الجديد، ويعودون مساء الى بيوتهم وعوائلهم ليقضوا أوقاتا سعيدة كل حسب رغبته وهواه، ثم ينامون قريري الأعين ليستقبلوا اليوم التالى بكل أمل ونشاط. لقد قضيتم أعواما طويلة من الذل والحرمان والهوان، تخرجون فى الصباح تتلفتون حولكم بوجل شديد خوفا من قناص او انفجار عبوة ناسفة، أو مجرم أحمق يفجرنفسه بينكم ليفوز بالحور العين، أو يوقفكم مجرم يسألكم الى أي مذهب تنتمون، وقد يخطف بعضكم ويعذب وتقطع رقبته لأنه شرطي أو جندي، أو حلاق، أو بائع ثلج. والأم تنتظر عودة فلذات أكبادها من المدرسة وزوجها من عمله وهو قلقة متوترة الأعصاب، ومن يعود منهم فى المساء لا يجد الماء ولا الكهرباء ويعاني من الحر والبرد، ويتقلب فى فراشه وقليلا ما يغمض له جفن خوفا مما قد يحدث من مصيبة فى اليوم الجديد. قد يبتسم الحظ لبعضهم فيجلسون أمام التلفزيون، ليروا كيف يعيش الناس فى خارج العراق، ويتسائلون بمرارة لماذا لا يسمح لهم بالعيش مثل باقى البشر؟

الخيار لكم وحدكم، لأن اختياركم سيحدد مصيركم ومصير أبنائكم وأحفادكم من بعدكم.

عاطف العزي