رغم أن قرار الرئيس الفرنسي في أبريل الماضي إرسال 700 جندي إضافي لأفغانستان كان مهمًا وإنذار خطير بالمنعطف الجديد للسياسة الخارجية الفرنسية، إلا أن وقعه على الفرنسيين لم يكن بتلك القوة التي كانت عليها المناظر القاسية لوصول توابيت الجنود العشرة الذين قتلوا في أفغانستان، ولم تعلّق الصحف على قرار الرئيس كما علّقت على مشاهد الأمهات الثكلى وهّن يبكين أولادهن. القضية هّزت الرأي العام وأججت المشاعر خاصة و أن معظم الجنود من الشباب الذي لم يلتحق بالجيش إلا منذ فترة قصيرة و لا يتجاوز عمر أغلبهم العشرين.

لأول مرة يقتنع الفرنسيون أن الحرب في أفغانستان ليست مجرد مشاهد بعيدة تطّل عليهم في النشرات الإخبارية بين الفينة و الأخرى، بل هي واقع من العنف و الموت قد يطال ذويهم و أحباءهم في أية لحظة. القرار الذي اتخذه الرئيس الفرنسي في ابريل الفارط بدعم قوات التحالف لم يؤكد فقط توجهه الأطلسي الجديد، ماسحًا بذالك 42 سنة من الاستقلالية و ''الاستثناء'' الذي أسّس له الرئيس السابق شارل ديغول حين صفَقَ باب الناتو بشّدة في وجه الأمريكيين فحسب، بل أن الرئيس سركوزي أكّد أيضا انه ربما أصبح مستقبلا أحسن حليف لواشنطن، لدرجة أن أشّد مؤيديه لم يفهموا جدوى تلك الهدية الثمينة التي قدمها للرئيس بوش و لم تبقى على نهاية ولايته سوى أشهر و بحصيلة أكثر من السيّئة بدل الانتظار لمساومة العودة للحلف مع الرئيس الأمريكي الجديد. كالعادة جاءت الحجّج الرسمية وراء العودة للحظيرة الأمريكية تحمل صبغة إنسانية، و قد لّوح سركوزي بالتقليد الفرنسي العريق في الدفاع عن حقوق الإنسان في العالم و مناصرة الديمقراطيات الناشئة و نّادى بواجب بلاده في محاربة ''الهمجيين الذين يبترون يد إمراة لمجرد أنها وضعت الطّلاء على أظافرها....'' لكن لا يخفى على أحد أن الدوافع الحقيقية وراء دخول فرنسا هذه الحرب ليست إنسانية بحتة ف''سركوزي البرغماتي'' لا يقدم شيئا من دون مقابل، وهوإن تّعهد بمساعدة الأمريكان فهو لأسباب إستراتيجية : أهمها تحقيق الحلم الفرنسي القديم بمشاركة الولايات المتحدة زعامة الحلف، تحديداً فيما يخّص laquo;الجناح الأوروبي'' و هو ما سعى إليه الرئيس شيراك سنة 1995 و1996 قبل أن يصطدم بالرفض الأمريكي. فالفرنسيون وبالرغم من شعارات الوحدة التي يرفعونها في وجه جيرانهم الأوروبيين إلا أن طموحات الزعامة والتفوق على الألمان والإنكليز لا تكاد تفارقهم واثقين بأجدريتهم لقوة ترسانتهم العسكرية والنووية الهائلة. لكن السؤال الكبير يبقى مطروحاً: هل أن المطلب الفرنسي بمكانة ممّيزة في حلف الناتو يستحق الدخول في حرب مكلّفة هي الآن بصدد التّحول إلى مستنقع آخر قد يفوق ما تعانيه الولايات المتحدة في العراق ؟.

الجواب قد يكون بالنفي خصوصا إذا أخذنا في الاعتبار المنحنى الكارثي الذي آلت إليه الوضعية الأمنية في أفغانستان. فبعد سبع سنوات من التواجد في أفغانستان لم تستطع القوات الأمريكية والجيوش الحليفة لها من السيطرة على أكثر من % 30 من التراب الأفغاني رغم مقتل أكثر من 794 جندي نصفهم من الأمريكان حسب آخر إحصائيات 2008. والوضعية في تدهور مستمر مع تصاعد وتيرة هجومات الطلبان، حيث بلغ عدد الضحايا منذ شهر يناير المنصرم لوحده أكثر من 183.

اليوم كل الخبراء يؤكدون على أن التفوق العسكري لقوات الحلفاء لن يجدي نفعًا في حرب العصابات التي تجري الآن في الجبال والتضاريس الأفغانية الوعّرة، ويتساءل معظمهم كيف ل 20.000 جندي من جنسيات غربية مختلفة أن ينجحوا في المهمة التي فشل فيها بالثمانينات 160.000 جندي من الجيش الأحمر المعروف بشراسته وتّمرسه على أقسى الظروف. و المهمة أصعب الآن بعد أن اكتشف الحلفاء أن ''مُشرف'' الذي كانوا يعمّلون عليه لمحاربة طالبان في المنطقة أصبح لا يتحّكم في شيء وبأن المخابرات الباكستانية التي تساند طالبان في الخفاء أصبحت بمثابة دولة داخل الدولة. اليقين بأن الحرب الجارية في أفغانستان هي ''خاسرة مسبقاً'' أصبح أقوى منذ أن فقدت هذه الحرب شرعيتها و ابتعدت عن أهدافها الإنسانية. فشعارات الحلفاء ووعدوهم بمساعدة الأفغان للنهوض باقتصادهم باتت واهية بعد أن أهملوا مشاريع إعادة أعمار أفغانستان ولم يعد أمام الأفغان سوى زراعة الأفيون لتأمين قوتهم اليومي، وبعد أن أضحت أخبار الفساد والرشوة المنتشرة في جميع المؤسسات تُضعف مصداقية الحكومة التي نصبها الحلفاء كل يوم أكثر.


المعركة الأخيرة التي راح ضحيتها جنود فرنسيين بأفغانستان ذكّرت المخضرمين منهم بما كانوا يتكبدونه من خسائر في الجزائر و ربما كانت الذكريات الأشد ألمًا هي عند أهالي الجنود الذين فقدوا ذويهم في ''حرب'' اعتقدوا طويلا أنهم الطرف الأقوى فيها و لهذا فإن الرئيس الفرنسي وإن بات من المؤكد انه لن ينفع الحلفاء كثيراً إلا انه لا محالة لاحق الضرر بنفسه و بشعبيته و باقتصاد بلاده الذي سيّتحمل تبعات حرب ستكلفها الكثير، لأن الحرب ندخلها و لا نعلم متى نخرج منها وهي لا تعرف رابح فكل من يدخلها خاسر..!

أنيسة مخالدي
[email protected]