أجل كنت ذلك الصبي الجالس هناك، في سنوات تبدو موغلة في القدم وكأنني لم أعشها. كان القمر والنجوم تشاركني متعة مشاهدة عالم آخر، تنعكس نبضاتها على الشاشة البيضاء.. اضحك فيه مع قفشات إسماعيل ياسين الساذجة، وأحزن لحزن ودموع فاتن حمامة. كنت ألد أعداء الشرير محمود المليجي كالآخرين تماما.. كنت معهم إلى جانب الحب والبراءة والعواطف الدافئة ضد الخيانة والدسائس.


تعرفت على صيحة (طرزان) المميزة قبل ان أراه على الشاشة حيث كان صوته ينطلق من دار السينما الصيفية القريبة من منزلنا لينتشر فوق سطح بيتنا وأنا متمدد في فراشي انتظر النهار. حفظت دويتو عبدالوهاب مع راقية إبراهيم ( حكيم عيوني) في فيلم (رصاصة في القلب)، وكانت راقية إبراهيم، جميلة الجميلات بقوامها الفارع وعينيها الساحرتين، وهي تتصور عبدالوهاب في مشهد من الفيلم طبيب أسنان، فتقول له بصوت يتقطر دلالا أنثويا:
ـ سنتي بتوجعني يا دكتور..
فيقول لها عبدالوهاب :
ـ أنا مش شايف غير صفين لولي..أنتِ يلزمك واحد جواهرجي مش واحد حكيم!
وفي اللحظات الحميمية بين البطل والبطلة عماد حمدي او شادية، محسن سرحان أو ماجدة كنا نستعيذ بالله عندما كانت عاصفة مفاجئة تفتح نافذة الغرفة التي يتطارح فيها العشاق الغرام، على مصراعيها فجأة، أو ينطلق برق مفاجيء في السماء، لأن ذلك كان نذيرا يلجا إليه المخرجون للدلالة ان ثمة محذور وقع بين الحبيبين وان البطلة فقدت عذريتها، وإنها ستحبل من البطل وتقاسي الشدائد وصنوف العذاب حتى نهاية الفيلم.


السينمات الصيفية كانت تحمل في أمسيات الصيف أصوات الممثلين إلى سطحنا القريب منها. كنا نسمع حوار تلك الأفلام قبل ان نراها. عند مشاهدتي للفيلم كانت ثمة ألفة سابقة بيني وبينه.


كم كانت أليفة تلك السينمات المفتوحة على القمر والنجوم والغيوم والسحاب والسماء.. بين حين وآخر كان يمر بائع المشروبات الغازية بين المشاهدين، وهو يحمل سطلا فيه قطعة ثلج، ويروح يفتح زجاجات (البيبسي) و( السيفون) و(العصير).


ودعت سينما (النجوم) في كركوك معجبيها مبكرة، تحولت إلى كراج للسيارات، إلا ان شاشتها التي أسعدت الآلاف من أبناء كركوك ظلت لسنوات طويلة باقية في مكانها بصمت وكأنها تشكو للمارة قسوة الزمن. ثم لحقتها السينمات الصيفية الواحدة تلو الأخرى. ومثلما اختفى كل ماهو جميل في العراق، اختفت السينمات ولم تستطع إبعاد غدر الزمن عن ذاكرة مدينتنا الحبيبة كركوك من خلال شوارعها وأزقتها وشعرائها ومقاهيها وسينماتها،أتابع بأسى تحولت السينمات الحبيبة التي انطبعت عليها طفولتنا وصبانا وشبابنا إلى محلات تجارية، طاوية معها كل ذكرياتنا الجميلة، لتحتل في ضفاف الروح مساحة ستظل مضيئة حتى نهاية العمر.

نصرت مردان