إن الكثير من المفسرين ليس لديهم الإستعداد لإزالة كثير من المبهمات والضبابيات التي كانت ولا تزال محل بلاء للأمة بأسرها، وإذا أراد أحد من الذين فتح الله عليهم وألهمهم تفسير كتابه المجيد أن يصحح ما أفسده الدهر الذي إحتضن النخبة تلو النخبة من المفسرين العظام فإن الكثير من المتشبثين بتأويل الآيات باطلاً يقف حجر عثرة في طريقه ولكن الأنسب لمن أراد أن يلقى الله تعالى وقد بلغ مراد الله من كتابه العزيز الأنسب أن يصحح المسار الأول الذي ظن به البعض أنه المسار الستراتيجي للتعامل مع كتاب الله تعالى آخذين بتأويل الآيات القرآنية حسب أهواءهم أو ميولهم المذهبية.
ولا يخفى على كثير من الناس أن مكانة الإمام علي [عليه السلام] لا تقابلها مكانة من بعد رسول الله (ص) وهناك العديد من الآيات القرآنية التي نزلت بحقه فهو لا يحتاج إلى تعريف فمن ناحية العلم لن نجد له البديل إلى يومنا هذا ومن جهة الشجاعة والعبادة لا يمكن أن نصفه بكلمات معدودة وكفى أن نذكر قول الشاعر فيه:
هو البكاء في المحراب ليلاً ***** هو الضحاك إذا إشتد القتال.
لكن الإرث الذي تناقلته الأجيال ولا يريد أتباعه الخلاص منه ففيه تكمن الطامة الكبرى، ولا أجد مبرراً للمفسرين الذين يتمسكون بروايات يناقض نصها القرآن الكريم علماً أن الأئمة جميعهم يقولون إذا لم يطابق كلامنا القرآن الكريم فاضربوا به عرض الجدار تأمل يقولون [كلامنا] فكيف بكلام غيرهم الذي يكون القرآن لعقاً على لسانه وهو ينسب هذه الآية أو تلك إلى الإمام علي أو غيره دون وجه حق إلى أن أصبح هذا العمل إرثاً مقدساً تتناقله الأجيال وهو أشبه بالخطوط الحمراء التي لا يمكن وطئها فضلاً عن إجتيازها.
وأصبح المفسرون ليس من حقهم قول الحقيقة التي تخالف الإرث المقدس علماُ أن عقيدة الإمامية تقتضي أن تكون العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وكذلك فإن المورد لا يخصص الوارد وهم على علم بهذه القواعد بل أن تفسيرهم للقرآن الكريم بني على هذا النهج، ومع كل هذا فهم لا يريدون إزالة الأوهام التي كانت محل بلاء لهم طيلة القرون الماضية من عمر التفسير. فالعنوان الذي وضعته للمقال هو الجزء المكمل لقوله تعالى: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) المائدة 55.
وفي الآية عدة مباحث أعرض لها على النحو التالي:
المبحث الأول: سياق الآية لا يدل على أنها تتحدث عن شخص بعينه والقوم ليس لديهم الأدلة الواضحة التي تقطع بنسبتها للإمام علي سوى الروايات التي لا يعول عليها والتي لا تتطابق مع السياق، ولو سلمنا جدلاً أن الإمام تصدق بالخاتم أثناء الصلاة هل يتناسب هذا مع قوله تعالى: (قد أفلح المؤمنون *** الذين هم في صلاتهم خاشعون) المؤمنون 1-2. وهل يخفى على ذي علم نوع الصلاة التي يؤديها الإمام علي [عليه السلام] وهل أن التصدق بالخاتم يعتبر من الزكاة التي لها شروطها، ثم كيف أن الإمام ينتظر البائس الفقير حتى يسأله حاجته وهم من يبحثون عن الفقراء آناء الليل وأطراف النهار والروايات بهذا الصدد لا يمكن حصرها في هذا المقال فهل نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض، ولو فرضنا أن الإمام علي قام بهذا العمل فالزكاة لا يمكن أن تحل إلا على أصحاب الأموال والممتلكات وكتب القوم مليئة بالروايات التي تنسب الفقر للإمام بل حتى المهر الذي قدمه لفاطمة كان درعه الخاص، وأكثر من هذا فهناك بعض الروايات تذكر أن فاطمة أرادت خادمة أو أمة لمساعدتها إلا أن الإمام [عليه السلام] كان عاجزاً عن تحقيق ما أرادت ورواية تسبيح الزهراء شهيرة بهذا الشأن.
المبحث الثاني: حين يرشدنا القرآن الكريم إلى بعض الأعمال الحسنة فلا بد أن نقتدي بها وتكون ملازمة لنا وتأخذ بها الأجيال وتدرس من قبل العلماء والفقهاء ويفتى بها كالفتاوى العرضية، فلو ثبت أن الله تعالى مدح الإمام أثناء تصدقه بالخاتم لماذا لا يكون هذا العمل سنة نستن بها طالما أن القرآن أثنى على هذا العمل العظيم لكن على النقيض من ذلك نجد الفقهاء يجمعون على الخشوع التام أثناء الصلاة التي لا يمكن للمصلي السهو والإلتفات في جميع أركانها علماً أن الآية ناظرة إلى إقامة الصلاة بكامل شروطها والمجيء بها على أتم وجه.
المبحث الثالث: قوله تعالى: [وهم راكعون] لا يمكن حمله على أنه حال من الصلاة فالآية مدحت المؤمنين بأنهم يقيمون الصلاة ولهم ميزة أخرى وهي إيتائهم الزكاة وكل هذا على سبيل المدح للمؤمنين ثم إنتقلت الآية إلى ذكر صفة أخرى لهم وهي قوله: [وهم راكعون] أي صفة الركوع والركوع يعني الخشوع والخضوع لله تعالى وقد يطلق الركوع ويراد به السجود كما في قوله: (وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب) ص 24. وقد يطلق السجود ويراد به الركوع كما في قوله: (وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين) البقرة 58. وكما هو ظاهر فإن الدخول لا يتحقق مع السجود، ويطلق الركوع ويراد به الخضوع كما في قوله: (يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين) آل عمران 43. إذاً المراد من قوله: [وهم راكعون] أي وهم خاضعون لله تعالى في جميع أحوالهم وليس فقط في وقت أداء الصلاة لذلك أكد مدحهم على هذا الوجه كما في الخطاب الموجه لمريم.
المبحث الرابع: في الآية المبحوث عنها [إنما] تفيد الحصر والإدخال يعني إختصار أكثر من جملة في جملة واحدة كقولنا [إنما المتواضع زيد] فــ [إنما] أفادت نفي التواضع عن مجموعة من الناس كان الحديث يدور حولهم وفيهم زيد وهو الوحيد الذي يحمل الصفة المذكورة فبدل أن نقول زيد متواضع وغيره ليس متواضع كل هذا الكلام حمل في [إنما] فقوله تعالى: [إنما وليكم.....الخ] أفاد حصر الولاية فيه تعالى وفي الرسول وفي الذين آمنوا وبنفس الوقت أفادت النفي لمن ذكر قبلهم أي نفي الولاية عنهم، أي عن موالاة أصحاب الكتاب.
فإن قيل: لم كرر الذين مرتين في الآية الكريمة والكلام يستقيم بواحدة؟ أقول: كأن سائل سأل من هم الذين آمنوا فجاء الجواب [الذين يقيمون الصلاة....الخ] وهذا كقوله: (إهدنا الصراط المستقيم *** صراط الذين..... الآية) الفاتحة 6-7. وكقوله تعالى: (وقال فرعون ياهامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب *** أسباب السموات..... الآية) غافر 36-37.
وأخيراً ليس بوسعنا إلا القول الحمد لله الذي هيأ لنا المنبر الحر لقول الحقيقة الخافية على الناس لقرون من الزمن وهذه نعمة عظيمة لم نحصل عليها طيلة السنوات الماضية التي عملنا بها في تفسير كتاب الله تعالى وكنا إذا لم نمنع فقد نعارض سواء في المدارس أو المساجد.
أما الآن وبفضل إيلاف الحرية وكادرها الأفاضل نقول الحق دون تردد أو خوف أو قطع وهذه نعمة نحمد الله عليها أولاً ونشكر الإخوة في إيلاف ثانياً ولا ابالغ إذا قلت أن هذه الحقائق لا يستطيع قولها كبار علمائنا أما المتلقي فهو حر بالأخذ أو الرد لأن واجبنا يتطلب هذا العمل فنحن لا نكتب للعب أو اللهو أو ضياع الوقت أو الأجر وإنما نكتب لنضع القراء أمام الحقائق التي أخفيت عليهم وها نحن نحاول أن نصلح ما أفسده الأوائل وإن متنا فنعذر أمام الله وأمام الإنسانية. كما قال إمرؤ القيس:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه ***** وأيقن أنا لا حقــان بقيصرا
فقلت له لا تــــــــبك عينـــك إنما ***** نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا
عبدالله بدر إسكندر المالكي
[email protected]
التعليقات