أحمد.. شاب لطيف.. أنيق.. وخلوق.. ولديه منطق جميل أثناء الحديث يعرف به كيف يوصل أفكاره إلى مستمعيه.. هو ليس كبيراً في السن لكنه يستعجل الوصول للعقد الثالث.. تعرفتُ عليه في إحدى الأنشطة الطلابية في إحدى الولايات، ومن يومها ونحن نتواصل من وقت لأخر تأخذنا فيها مجموعة من الهموم إلى حيث النقاش الجميل الذي لا يكاد يقف أو ينتهي..
أخبرني أحمد في إحدى النقاشات الهاتفية أنه يرغب في الزواج، وأنه يسعى له الآن بخطوات جادة.. ثم فاجأني أنه يرغب في البحث عن طالبة مُبتعثة لتكون شريكة له في غربته.. quot;لن أجد إنسانة تفهم بيئة الاغتراب ونفسية المُغترب أكثر من طالبة تُمارس الغربة وتُكابد مشاقها وأحوالهاquot;.. وأضاف.. quot;أعشق ذلك اليوم الذي أجد فيه شريكة حياتي تُسابقني إلى الجامعة وتسبقني لنتعلم ثم نتسابق للعودة للمنزل فـأسبقهاquot;.. انتهى كلامه!!.. أثنيتُ على مبدئه ووافقته على مذهبه.. فهناك العشرات من بناتنا المبتعثات من تُشترى بالذهب خُلقاً وأخلاقاً وحشمة وحياءاً..
انقطع التواصل بيننا مؤقتاً بسبب تواجدي في السعودية لألتقط أنفاسي قليلاً.. بعدها عاد التواصل من جديد.. لكن كان هناك شيء ما يقف خلف تلك النبرة الحزينة في صوته والتي لم أعتدها منه.. سألته إن كان قد حصل شئ في غيابي!!.. قال بصوت فيه ارتباك وحيرة: أين الخلل؟.. قلت: الخلل يكمن في طبيعة الحدث!!.. قال: كيف؟.. قلت دعني أعرف الحدث أولاً لأرى إن كنت أستطيع تشخيص الخلل!!.. فالطبيب لن يستطيع تشخيص المرض دون معرفة العرض!!.. قال: اسمع مني هذه القصة التي حدثت في إحدى المدن الأمريكية المشهورة والتي لا تعرف النوم في الليل!.. قلت: هـــــات!!..
يقول.. quot;كنت في رحلة سياحية أزور فيها أحد أصدقائي في تلك المدينة التي تسهر حتى الصباح.. وكان معي صديقي quot;عمرquot; من نفس مدينتي.. وقضينا أوقاتاً جميلة زرنا فيها بعض المعالم والمعارض والأسواق والدور.. وكادت أن تكون رحلة ممتعة لولا تلك الليلة التي انكشف فيها الحجاب وأعلن انحرافه!!.. حيث في منتصف إحدى الليالي، كُنّا نسير في وسط المدينة (الداون تاون) الذي تشعر فيه أنك في قرية كونية قد جمعت أصناف الناس بأزيائهم ولغاتهم وعاداتهم!.. وفجأة خرجت علينا فتاتان من إحدى النوادي الليلة وهما في أحضان شابان أمريكيان.. تسمّرتُ في مكاني وحدّقتُ باللتان تسيران أمامي وأنا لا أكاد أصدق ما تراه عيناي وتسمعه أذناي!!.. سألني زميلي: لماذا تنظرُ إلى تلك الفتاتين وكأنك تعرفهما؟.. أعرفهما!!.. إنهما فلانة وفلانة.. فتاتان سعوديتان من بناتنا المُحجبات!!.. كُنا نعرفهما في مدينتنا على أنهما من أحسن الناس أخلاقاً والتزاماً!!.. ألتفت ابحث عن عمر لعله ينفي ما رأيته فهم مثلي يعرفهما جيداً ويعرف إخوانهما!!.. جاء عمر من بعيد يجري وهو يحدق بي وكأنه مثلي يبحث عن إجابة أو تصحيح!!.. اختفت الفتاتان في ظلام الليل برفقة الشابان إلى حيث تكتمل السهرة، ولم تفطنا لوجودنا أو تشاهدا وجوهنا!!quot;..
سألني أحمد.. كيف يمكن للحجاب أن ينحرف؟.. وكيف لي أن أثق بعد الآن بمن أرغب في الارتباط بها والزواج منها؟.. وكيف الوصول لماضي من يختارها قلبي وعقلي؟.. كانت أسئلة أحمد منطقية واستنكاره مفهوم.. فمن كانت ترمي حجابها في الزوايا المظلمة وتحضن الغرباء لا يمكن الوثوق بها.. وهي أو تلك يطعنون في نزاهة الحجاب وشرف المحجبات.. وهنّ مسئولات أمام الله وأمام الناس عن الكلام الذي يَطال الشريفات.. وكان لابد من الإجابة على أسئلة أحمد.. وكان لابد من إعادة الثقة لدية تجاه المحجبات.. وكان من الواجب إعادة الاستقرار النفسي والتربوي لتتصالح النفس ويهدأ الخاطر وتستقيم الأمور..
سألت أحمد: هل أخواتك محجبات؟.. قال نعم.. قلت: هل فقدت الثقة فيهنّ؟.. سكتْ!!.. أعدت عليه سؤالي: هل فقدت الثقة في أخواتك المحجبات؟.. قال: لا يمكن أن أشك في أخواتي ولو رأيتهن بحال لا تسرّ!!.. ولماذا إذاً هذا الشك في بقية المحجبات العفيفات!!.. لماذا نغتال باستيائنا شرف أكثرية الطاهرات من المحجبات بتهور أقلية عبثت بشرفها أو عبث الشيطان بها حتى أصبح الحجاب لا يستر سوءاتها!!..
الحجاب غطاء والتزام.. وهو امتحان صعب للفتاة المسلمة تستر به زينتها وترفض من خلاله تبرجها، وهو ما يخالف فطرة الأنثى لرغبتها في رؤية الناس لجمالها.. والحجاب حسيّ ومعنوي.. وأي اختلال في طرفي المعادلة هو قدح ٌ في نظرية الحجاب وشرعيته..
هناك الكثير من المحجبات (وهنّ الأغلبية) من أدركت مفهوم الحجاب وحافظت على شرف العفاف وعلت في سماء النقاء.. بل هناك من هي ليست من أهل الحجاب لكنها تنتمي إلى نادي العفيفات بأخلاقها ونظافة سلوكها ووعيها ونباهتها.. ولذا لا يجب أن يكون الحجاب هو المقياس الحقيقي والمعيار الوحيد لأخلاق البنت وطهارتها.. ولا يجب أن نحشر المُحجبات جميعهن في زاوية واحدة بسبب أقلية أسرفت في نحر الحجاب وانحرافه!!.. ولا يجب أن يدخلنا داء الشك من واحدة بسبب قلة حياء الأخرى وانحرافها..
طلبت من صاحبي إن كان بالإمكان إجراء اختبار ذهني سريع نُدغدغ به العمليات العصبية في جهازنا العصبي في الدماغ!!.. استنكر أحمد كلامي لكنه أجابني إلى طلبي.. هنا بدأنا في الاختبار!!..
طلبت من أحمد أن يتخيل ذهنياً أنه يرى واحدة من أخواته مع إنسان في مكان خاص وفي وضع خاص!! (لأحمد حرية اختيار المكان الخاص والوضع الخاص).. وحينما تكتمل الصورة ويعيش واقعها طلبت منه أن يخبرني بمشاعره تجاه تلك الصورة!!.. اكتملت الصورة ثم أخبرني!.. quot;أرى شقيقتي مع إنسان غريب وفي وضع أليم!!quot;.. سألته: ما مشاعرك؟.. قال: quot;غضب وإحباط وألم وانهيارquot;.. سألته: quot;ماذا ترى أيضاً؟.. أجاب: quot;أرى شقيقتي ضحية لذئب بشري دغدغ مشاعرهاquot;.. وأضاف: quot;أختي لا تفعل هذا من سوء، وهي طيبة وطاهرة في نفسهاquot;.. أوقفته من تخيلاته.. صرفت ذهنه عن تلك الصورة.. ثم.. طلبت منه أن يتخيل صورة أخرى مشابهة لكنها لفتاة أخرى محجبة لا يعرفها.. فعل.. سألته: ماذا ترى؟.. قال: quot;فتاة عابثة مع شاب لا يحل لهاquot;!!.. ما مشاعرك؟.. قال: quot;إحباط وغضب وألمquot;.. ماذا ترى أيضاً؟.. قال: quot;فتاة أساءت استغلال ثقة أهلها وطعنت شرفهاquot;.. صرفت ذهن أحمد عن الصورة الثانية أيضا.. ثم طلبت منه أن يدمج الصورتان مع بعضهما ثم يعيش واقع الصورة الجديدة.. فعل.. سألته: ماذا تشاهد؟.. قال: quot;ضحايا لواقع مؤلم وظروف قاهرةquot;.. ماذا ترى أيضاً؟.. قال: quot;فتيات يشعرن بنوع من الحرمان، ومن نوع من الإدمان الذي عن طريقه يطلبن اهتمام الرجل ويسعين خلف كلماته وحروفهquot;.. انتهى الاختبار!!..
quot;خلف كل سلوك نية جيدةquot;.. هذه قاعدة نفسية معروفة.. لا يوجد سلوك سلبي بالكامل.. هناك ظروف.. هناك آلام.. هناك احباطات.. هناك اضطرابات.. هناك نفسيات.. كل هذا يقف أحياناً خلف تصرفاتنا وانحرافاتنا.. نفعل أشياء نخجل منها.. نستحي من ذكرها.. نلوم أنفسنا على القيام بها.. لكنها كانت نتاج اللحظة.. نتاج تلك الآلام والاضطرابات التي عانينا منها.. ولا يجب أن نجلد أنفسنا عليها ولا أن نجلد غيرنا بها..
نعم قد نغضب.. نتعب.. نتألم حين تسقط مثاليات ومبادئ.. ننهار حين نجد من رفعناه ليُعانق السماء قد أخلد إلى الأرض بإرادته.. بغفلته.. بجنونه.. بحماقته.. ولكن لا يجب أن تتحطم نفسياتنا وتتألم أرواحنا.. الحياة أكبر من هذا.. والمستقبل أهم من أنْ نصرفه على أحداث مضت أو صور اهتزت أو حجابات انحرفت!!..
هذه قصة أحمد.. المُبتعث الذي رجع إلى حلمه الأول بالزواج من مبتعثة ومحجبة..
الدكتور خليل اليحيا
المشرف العام على الملتقى السعودي في أمريكا
التعليقات