إذا قيل لك أن أحد الناس قد كفر بقضية معينة فاعلم أنه في منتهى الإيمان بها وهذا ليس من باب الفلسفة ولكن اللغة تقرر مافي الألفاظ من معاني وسيمر عليك خلال البحث المخصص لهذا المقال الذي عنوانه أحد مقاطع قوله تعالى: (وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً وإياي فاتقون) البقرة 41. وفي الآية عدة مباحث سأعرض لها على النحو التالي:
المبحث الأول: معنى الكفر لغة: يعني الستر والأصل المشتق منه كفر بفتح الكاف أي ستر ولذلك يطلق على المزارع [كافر] لتغطيته البذور بالتربة كما قال تعالى: (كمثل غيث أعجب الكفار نباته) الحديد 20. ويطلق لفظ الكافر على الليل لأنه يأتي بالظلام كما قال لبيد:
يعلو طريقة متنها متواتر ***** في ليلة كفر النجوم غمامها
أما شرعاً: فالكفر يعني: إنكار ماعلم بالضرورة من أصل الدين الذي جاء به الأنبياء. وأصل التسمية لغة يبين لنا أن الكافر يعلم يقيناً بإنكاره لنعمة الله تعالى أو إنكار الخالق نفسه والعياذ بالله أما إطلاق اللفظ على من ينكر وجود الله تعالى دون علم فهذا من باب التوسع لأفتقار اللغة للبديل في هذا الشأن وهذا شائع عند أهل اللغة.
المبحث الثاني: في الآية المبحوث عنها أفرد كافر ولم يجمعه لتقدير محذوف وعلى هذا يكون المحذوف إما فريق أو فوج أي لا تكونوا أول فوج أو فريق كافربه كقولنا لنذهب إلى منازلنا أي كل واحد منا يذهب إلى المنزل الخاص به، وقيل لا تكونوا أول من يكفر به وقت نزول الخطاب وقيل لا تكونوا أول كافر بعد أن آمنتم ويكون الخطاب على هذا التقدير خاص برؤساء اليهود الذين دخلوا الإسلام.
فإن قيل: كيف ينهاهم القرآن الكريم أن يكونوا أول كافر به ولم ينهاهم أن يكونوا آخر من يكفر به علماً أن في الثاني لا يكون موتهم على الكفر؟ أقول: النهي إرشادي ويتضمن الآخر أيضاً وقد حذف لدلالة المعنى عليه. وخص الأولية لأنها أبلغ في الردع وهذا كقول الشاعر:
من أناس ليس في أخلاقهم ***** عاجل الفحش ولا سوء جزع
ومن المؤكد أن الشاعر لا يريد أن فيهم فحشاً آجلاً ولكنه نفى عنهم الفحش سواء كان عاجلاً أم آجلاً وقد حذف الثاني لدلالة الأول عليه، وكقول آخر:
ولا أدري إذا يممت أرضاً ***** أريد الخير أيهما يليني
وقد حذف الشر لدلالة الخير عليه والمعنى ظاهر في أيهما. كقوله تعالى: (وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم) النحل 81. ولم يذكر تعالى البرد إكتفاءً بالحر الذي تم فيه الغرض من الوقاية. وهذا كقوله: (وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم) الأنعام 13. فذكر الساكن ولم يذكر المتحرك لدلالة المعنى على الغرض المطلوب.
المبحث الثالث: مجمل القصة التي كانت السبب في النزول: [ولاتكونوا أول كافر به] الخطاب لرؤساء اليهود وقد نزلت في كعب بن الأشرف ومن على طريقته في التصرف بمن هم دونهم في الأهمية والمعنى: لا تكونوا يا رؤساء اليهود أول من يكفر بالقرآن وهذا التعريض يدل على أن لهم العلم المسبق بالقرآن ونعت النبي (ص) وصفاته لذلك فقد رفع القرآن شأن الذين إتبعوه منهم كما قال تعالى فيهم :(الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أؤلئك هم المفلحون) الأعراف 157.
وفي خطاب الآية المبحوث عنها مراعاة لمكانتهم التي تختلف عن مكانة المشركين وهذا كقوله: (ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكوراً) الإسراء 3. وكقوله: (يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغياً) مريم 28. حيث نسبوها إلى هارون لعظيم منزلتها عندهم.
فإن قيل: ما الذي دعاهم أن يغيروا موقفهم بعد أن كانوا يستفتحون بمجيء الرسول (ص) كما قال تعالى: (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين) البقرة 89. أقول: الذي دعاهم أن يغيروا موقفهم هو الحسد الذي أعمى بصيرتهم لأنهم كانوا ينتظرون الرسالة فترة طويلة والإستكبار ظاهر في السياق. علماً أن الإختيار في أمر الرسالة لا يمكن أن يقرره البشر فهو خيار رباني لأن الله أعلم حيث يجعل رسالته والقضاء في أمر كهذا عائد له جل شأنه لكن بعض الناس لا يتمنى أن يصيب الخير سواه وقد جرت هذه السنة فيهم إلى اليوم حتى أن هذه العدوى إنتشرت إلى الفرق الإسلامية نفسها حتى أصبحت كل فرقة تعتقد أنها الفرقة الناجية ولكل منهم حججه التي لا تنهض أمام الحق الذي أنزله الله في كتابه المبين.
المبحث الرابع: نهى تعالى عن الكفر بكل حالاته إلا في حالة الإكراه كما قال: (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم) النحل 106.
وهذه الرخصة التي أشارت لها الآية الكريمة نجد التقية ظاهرة فيها في حالات الخطر التي يتعرض الإنسان لها فإذا تلفظ المؤمن بكلمات ظاهرها الكفر فلا يؤاخذ على ذلك ولم يترتب عليه أي نوع من الآثام كما هو ظاهر في الآية الكريمة لأن الحاكم والشاهد هو الله تعالى ولا يمكن أن يؤاخذ الإنسان في حالات الإضطرار، كما في قوله تعالى: (فمن أضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم) البقرة 173.
عبدالله بدر إسكندر المالكي
[email protected]
التعليقات