معاهدة بورتسموث
المداولات
لامتصاص نقمة الشعب وتذمره بعد فشل حركة رشيد على الكيلاني (مايس/مايو 1941)، فقد بدأ المسئولون بالتداول مع البريطانيين من أجل تعديل معاهدة 1930 والتى كانت سببا رئيسا للحركة. وطالت المفاوضات دون جدوى وتوقفت. وفى منتصف تموز/يوليو 1947 قرر الوصي على العرش عبد الاله السفر الى لندن، فاقترح عليه رئيس الوزراء صالح جبر مفاتحة البريطانيين بالعودة الى المفاوضات، فوافق على ذلك. وبعدها بأيام بعث ببرقية الى صالح جبر يخبره فيها بموافقة المستر بيفن وزير خارجية بريطانيا على طلبه، وان بيفن يحبذ مجيئه الى لندن. ثم بعث اليه ببرقية أخرى يبين له اصرار بيفن على ابقاء مطاري الحبانية والشعيبة تحت السيطرة البريطانية مع امكانية اشتراك العراق فى ادارة واستعمال المطارين مع البريطانيين، وان بيفن أكد له بأن استعمال المطارين سيكون للدفاع عن العراق ومصالح بريطانيا فى نفس الوقت. رد صالح جبر بأن عدم تسليم المطارين الى العراق أمر لا يمكن قبوله، ولا يمكن الدخول فى المفاوضات على أساس احتفاظ بريطانيا بالمطارين، لأن ذلك ليس فى مصلحة العراق فى شيء بل يمس سيادته وكرامته.
وفى ذات الوقت كان الدكتور محمد فاضل الجمالي وزير الخارجية فى وزارة صالح جبر قد وصل الى لندن من نيويورك واجتمع فور وصوله بالمستر رايت مساعد وزير الخارجية لشئون الشرق الأوسط وبحثا معا تعديل معاهدة 1930 واستلم نسخة من مسودة التعديل التى أعدتها الحكومة البريطانية، ثم قابل بيفن وبعدها أرسل برقية الى صالح جبر يخبره فيها بأن بيفن و مايكل رايت مستعدان لتعديل الصيغ بأي شكل يضمن المصلحة المشتركة وانه يعتقد بأن البريطانيين مستعدون للمفاوضات.
التحريض على المظاهرات
سمعت الأحزاب السياسية المعارضة بالاجتماعات التى دارت فى قصر الرحاب ولندن وثارت ثائرتها، وقدم كل حزب منها احتجاجا على التعديل بدون الاطلاع عليه وحتى قبل بدء المفاوضات
حوله، وقام طلاب الكليات والمدارس بتحريض من المعارضة وخاصة الشيوعيين بالامتناع عن الدراسة والاشتراك فى المظاهرات.
فى حينه كان الركود الاقتصادي يخيم على البلد بسبب الكساد الذى ضرب جميع دول العالم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، بسبب تسريح العمال الذين كانوا ينتجون آلات الحرب وعدتها، بالاضافة الى عودة الجنود الى الحياة المدنية وانضمامهم الى جيوش العاطلين. ولكن العراقيين ظنوا انهم وحدهم يعانون، خاصة وأن المعارضة قد أشاعت بأن الانكليز والحكومة العراقية (العميلة) هم السبب فى تفشي البطالة، فلم يكن لديهم مانع بالخروج الى الشوارع بمظاهرات صاخبة ضد الحكومة، وتطور الوضع الى مواجهات دامية بين المتظاهرين والشرطة وقع نتيجتها الكثير من الضحايا من الطرفين.
فى يوم 5 كانون الثاني/يناير 1948 صباحا ذهب بعض طلاب المدارس الثانوية الى كلية الحقوق ثم خرجوا متظاهرين يهتفون بسقوط المعاهدة و بحياة فلسطين، ولما حضرت الشرطة لتفريقهم بادروهم برمي الحجارة عليهم وأطلق بعضهم النار على الشرطة مما ادى الى جرح 42 شرطي، وعادوا وتحصنوا فى الكلية، ثم سمحت لهم الشرطة بالتفرق، وهدأ الحال بعض الشيء.
قرر مجلس الوزراء الايعاز بالتحقيقات القانونية للوقوف على الأسباب التى أدت الى المصادمات بين الطلاب والشرطة ومعرفة المحرضين والمشتركين فى تلك المظاهرات، كما أوعزت الى وزارة المعارف برفع تقرير مفصل عن كلية الحقوق التى شجعت وقادت المظاهرات، والتحقيق عن كيفية دخول المبادىء الهدامة (الشيوعية) اليها. وقرر أيضا تشكيل لجنة برئاسة عضو محكمة التمييز وعضوية متصرف (محافظ) لواء بغداد ومدير العشائر العام للتحقيق فى كل ما حصل.
التوقيع على المعاهدة
غادر صالح جبر الى لندن فى نفس اليوم، 5 كانون الثاني، بعد أن ترأس اجتماعا لمجلس الوزراء الذى تقرر فيه تعطيل الدراسة، وصدرت الأوامر بتوقيف بعض المتظاهرين. وفى اليوم التالى قامت الصحف الحزبية المعارضة بشن حملاتها على الحكومة ورئيسها وانتقدت المعاهدة التى لم تطلع عليها مطلقا. ثم ساد الهدوء فى أرجاء العاصمة بعد أن أصدرت الحكومة بيانا أكدت فيه حرصها على حقوق العراق المشروعة فى المعاهدة.
وفى السادس من نفس الشهر وصل الوفد العراقي المفاوض الى لندن وأجرى لقاءات ومفاوضات عديدة انتهت فى العاشر من الشهر نفسه، بعدها وقع رئيسا الوفدين والأعضاء على المعاهدة فى مدينة بورت سموث، وسميت باسم تلك المدينة. وكما هو معروف فان المعاهدة لا تعتبر سارية المفعول الا بعد مصادقة برلماني الدولتين عليها.
وما أن وصلت المعلومات الى بغداد عن توقيع المعاهدة حتى ثارت ثائرة الأحزاب المعارضة وألهبت حماس الجماهير من جديد، فأضرب الطلاب عن الدراسة وقاموا بمظاهرات توجهت الى مجلس الأمة وهم يهتفون بسقوط الحكومة. وحصلت الاشتباكات بينهم وبين الشرطة سقط فيها العديد من القتلى والجرحى. كنت فى ذلك الوقت فى مرحلة الدراسة المتوسطة وكنا نفرح حينما يأتى الى مدرستنا بعض الكبار ويصرون على خروجنا للتظاهر، وكنا نعتبرها فرصة للتخلص من يوم آخر من أيام الدراسة. وهذه واحدة من الطرق الخبيثة التى كان السياسيون يجمعون بها المتظاهرين.
وبعد أن تأزمت الأمور دعا الأمير عبد الاله الى اجتماع فى البلاط الملكي حضره 23 سياسيا ما بين مؤيد للمعاهدة ومعارض لها. وصف المؤيدون للمعاهدة المتظاهرين بأنهم شيوعيون وعملاء بينما وصفهم المعارضون بأنهم وطنيون. ثم صدر بيان عن الاجتماع جاء فيه بأن الأمير عبد الاله يعد الشعب بأنه سوف لا تبرم أية معاهدة لا تضمن حقوق البلاد وأمانيها الوطنية. استقبل الجميع البيان بالفرح والسرور، وسمح للصحف المعطلة بمعاودة الصدور. وفى اليوم الثاني لاجتماع البلاط أدلى صالح جبر فى لندن بتصريح أعرب فيه عن أمله بأن مجلس الأمة والشعب العراقي سيجدون فى المعاهدة تحقيقا للأماني القومية، وان بعض العناصر الهدامة من الشيوعيين والنازيين استغلت فرصة غيابه وأحدثت القلاقل، وانه عائد الى العراق ليسحق رؤوس الفتنة.
عودة المظاهرات
أثار هذا التصريح الرأي العام وقامت المظاهرات من جديد وتصاعدت حدتها فى يوم 26 كانون الثاني، وهو نفس اليوم الذى عاد فيه صالح جبر الى بغداد. وذهب فور وصوله الى قصر الرحاب والتقى بعبد الاله وحضرالاجتماع نورى السعيد وبعض السياسيين الآخرين، وأعرب صالح جبر عن استعداده لتقديم الاستقالة، الا ان عبد الاله طلب منه التريث.
وعقد اجتماع فى وزارة الداخلية تقرر فيه منع المظاهرات واستعمال القوة ضد المتظاهرين. وأصدر صالح جبر بيانا طلب فيه من المواطنين الخلود الى الهدوء والسكينة وقال بأنه والوفد المرافق له فى لندن توصلوا الى عقد معاهدة جديدة تضمن للبلاد حقوقها وأمانيها واستقلالها التام، وان الأمة العراقية الكريمة ستطلع على شرح قيودها ومراميها مفصلا وعندئذ ستكون للأمة الكلمة الأخيرة فى البت في أمرها سلبا أو ايجابا. غير ان المعارضين تجاهلوا البيان وعقد زعماؤهم اجتماعا واتفقوا على وجوب الاستمرار فى المظاهرات التى بلغت أوجها يوم 27 كانون الثاني فتحولت بغداد الى ساحة قتال بعد أن أقفلت الشرطة مداخل الطرق ونصبت الرشاشات فوق أسطح العمارات ومنائر الجوامع ومنها جامع الآصفية حيث رمت الشرطة الرصاص على المتظاهرين على جسر المأمون (سمي بجسر الشهداء فيما بعد)، وسقط عشرات القتلى ومئات الجرحى واضطرت وزارة الداخلية الى الاستعانة بالجيش. قدم صالح جبر استقالته ثانية فقبلها عبد الاله الذى أعلن عنها فى بيان اذيع من الاذاعة العراقية، ساد على أثره الهدوء وخلت الشوارع من المتظاهرين.
وهكذا لم تعرض المعاهدة الجديدة - التى قال عنها البعض بأنها المعاهدة التى كتبها العقلاء ومزقها الجهلاء - على مجلس الأمة فأصبحت بحكم الملغاة فى نهاية كانون الثاني 1948. ونتيجة لذلك فقد استمر العمل بمعاهدة عام 1930 الجائرة، الى أن أجهزت عليها ثورة 14 تموز 1958 أي بعد عشر سنوات ونصف من رفض المعاهدة الجديدة.
الاتفاقية العراقية الأمريكية ndash; هل يعيد التأريخ نفسه؟
مؤخرا قرأت بعض المقالات التى كتبت حول الاتفاقية الجديدة المزمع عقدها بين العراق وأمريكا، وقارنها كاتبوها مع معاهدة بورتسموث (وأراهن على أنهم لا يعرفون محتوياتها) وتوصلوا الى ان معاهدة بورتسموث أرحم من الاتفاقية!!. وقال بعض السياسيون نفس القول، فكيف عرفوا ذلك والاتفاقية ما تزال قيد المداولة ولم يعلن عن تفاصيلها بعد؟ أهو النفاق أم الجهل أم الطمع بالمناصب والحصول على المال الحرام؟ أيريدون اعادة التأريخ الملطخ بالدماء لجهات معروفة تعارض ليس لمصلحة البلد بل لمصلحتها الخاصة فقط؟ أول من أعرب عن رفضه للأتفاقية هو مقتدى الصدر الذى طلب من جماعته التظاهر بعد صلاة كل جمعة ضد الاتفاقية حتى اسقاطها، وهو لم يطلع عليها طبعا، وحتى اذا اطلع عليها فلم ولن يفهمها. أيعجبكم هذا النموذج من المعارضين؟ ويعارضها كذلك الجلبي الذى زعل على أمريكا (أو زعلت عليه)، وتعارضها هيئة العلماء المسلمين الذين لا يفقهون فى السياسة أكثر من مقتدى الصدر أو أي معمم آخر. ألم يخطر على بال المعارضين انه اذا لم يتم الأتفاق فان الأمريكيين سيبقون فى العراق الى ما شاؤوا؟ لا يريد أي عراقي مخلص بقاء قوات أجنبية على أرض العراق، ولكن من يستطيع اخراج الأمريكيين بالقوة؟ وكيف سيحمى العراق نفسه من الجيران الطامعين به، وجيشه لا يستطيع حتى دخول كركوك؟
احذروا الدجالين
لقد خدعونا حين طبلوا لدولة اسلامية تجمع شمل المسلمين، ثم وحدة عربية (ميغلبها غلاب)، ثم وحدة وحرية واشتراكية والتى لم تتحقق واحدة منها طيلة أربعين عاما من حكم البعث الدموي. ثم توجوها بالطائفية التى مزقت الشعب شر ممزق، وأسالت الدماء مدرارا، واهدرت ثروات البلد ما بين نهب وسلب واختلاس وتهريب، فأصبح العراقيون مابين مهاجر ومهجرولاجىء يعيش على الصدقات، وحكام متخومين مرفهين وشعب جائع لا يجد قوت يومه، ومريض يعانى من الداء ويعز عليه الدواء، بينما البلد يطفوا على بحر من النفط والخزينة متخمة. ان ما نحتاجه هو شعب متحد يميز بين العدو والصديق ولا يركض وراء الشعارات الطنانة الرنانة التى يحملها المشتبه باخلاصهم والمشعوذين والجهلاء الذين جروا على البلد الخراب والدمار. العراق ليس حكرا لقومية واحدة او لدين واحد او لطائفة معينة بل هو لكل العراقيين الشرفاء الذين يحبونه، وان خير العراقيين هو من ينفع كل العراقيين. فهل سنتعظ هذه المرة؟ لا أظن، لأننا قوم لا نتعظ.
عاطف العزي
التعليقات