كل أولئك النشامى والغيارى الذين هللوا وطبلوا وزمروا لديمقراطية العربان في بلاد موريتانيستان، غفل عنهم أن العودة للأصل هو القانون الطبيعي الذي يحكم الأشياء مهما بلغ التمدد وسما الارتفاع. لأنه، وبرأينا المتواضع جداً، فمنذ الإطاحة بالعقيد معاوية ولد الطايع قبل أكثر من عامين، وموريتانيا تعيش حالة طارئة وغير طبيعية من عدم القدرة على التكيف مع الديمقراطية وقيمها المتعبة واستحقاقاتها التي لا ترحم. وإنه أمر غير قابل للتصور مطلقاً، أن تجتمع العروبة والقيم البدوية، التي تتلبس هذه النفوس والرؤوس، مع الديمقراطية، في أي يوم من الأيام.

فالديمقراطية ليست ثوباً يفصل ويتم تلبيسه لأي كان ومهما كان جسمه quot;لبيساًquot;. وتكاد تكون أحياناً، سماً زعافاً لمن لم يتعود جسمه عليها بعد. واستجلاب الديمقراطية بقرار، هو كمن ينقل دماً لجسم لا يحمل نفس الزمرة الدموية وبكل ما يترتب على ذلك من quot;اختلاطات ومضاعفاتquot;. فلا أدري، مثلاً، لماذا أوقفت محطات التلفزة والفضائيات العربية، برامجها المعتادة( يعني فقهاء وتسطيح وتجهيل واستغفال وهشك بيشك بنفس الوقت)، لتبث quot;خبراً عاجلاً quot; ألا وهو حدوث انقلاب عسكري في موريتانيا، وكأننا نتحدث عن انقلاب عسكري في الدانمارك أو السويد وسويسرا، هكذا!!!. فهذا البلد الخارج من quot;غيابات الجبquot; القروسطي لم تترسخ لديه بعد أية قيم ومعان وثقافة ديمقراطية حقيقية شأنه شأن جميع دول المنظومة البدوية الشرق أوسطية التي تحكمها الثقافة الأبوية الهيراركية التي تمجد الحاكم، ولا تستقيم، بالمطلق، مع أي شكل من أشكال الديمقراطية التي تعيشها ديمقراطيات عريقة رسختها على مدى أجيال.

وما كان لنا أن نتصور أن الديمقراطية عريقة في هذا البلد العربي والإسلامي الشمال أفريقي إلى الحد الذي يجعل أي تحرك غير ديمقراطي يستقبل بمثل هذا القدر من الاستغراب والاستهجان، غير أنه من الحكمة انتظار جلاء quot;العامل الإسرائيليquot; وراء الموضوع ليتم الحكم على التطور برمته، ومن مختلف الأبعاد. فالديمقراطية الموريتانية تعني في أحد أشكالها المدعومة أمريكياً وإسرائيلياُ هو حرية الموقف من إقامة العلاقة مع الدولة العبرية، والتفاصيل الأخرى لا أهمية لها في هذا السياق. ولا أدري كيف يعرب كثيرون عن قلقهم، ودهشتهم، لحدوث انقلاب عسكري، في بلد مازالت ثقافته تمجد استرقاق، وامتطاء العبيد كما يقول أمل دنقل، ولا تحظر دساتيرها هذا الفعل، وتشرع تعدد الزوجات وملك الإيمان. و مازالت الكثير من الممارسات اليومية تتسم بالعنصرية إلى حد كبير بين quot;السود والبيضquot;، والعرب الأقحاح من ورثة السلف الصالح، ما غيرهم، والمواطنين ذوي الأصول الإفريقية السوداء، فبأي آلاء ربكما تتدمقرطون؟

الديمقراطية ثقافة كاملة، وكل لا يتجزأ، ورزمة من الممارسات الاجتماعية والسياسية المتجانسة. فلا يعقل أن بلداً ما زال يشرعن العبودية والاسترقاق والاتجار بالأطفال، ويمثل الفساد والتجاوزات ركناً أساسية في بنية هيكليته الإدارية والمعيشية الأخرى، كسائر المنظومة البدوية، يمكن أن يعرف أي شكل من الفعل والحس الديمقراطي. فالكلام عن فساد الرئيس وحاشيته وتعطيل المؤسسات وتقريب المحاسيب والأزلام، وطغيان الاعتبارات العائلية على كل قرار، وجعلها أولوية، يدلل على أن كفة ثقافة الفساد والاستبداد والإرث السلطوي الشرق أوسطي المقيم، سترجح على أية كفة أخرى. وفي الحقيقة فإن هذا الخبر هو أقل من خبر عادي، وعلى الهامش في محيط شرق أوسطي ينعم باستبداد تاريخي، وحديث العهد بهمروجات الديمقراطية والليبرالية وحقوق الإنسان. فواقع الحال، في تاريخنا المجيد الذي يستلهم منه القوميون العرب تجاربهم quot;النضالية الفذةquot;( ومن تاريخك أدينك)، ينبؤنا بأنه لم يحصل يوماً دخول إلى بلاطات السلاطين والخلفاء، والقصور الرئاسية من الأبواب، ومن دون المؤثرات الضرورية الأخرى كبرك الدماء، وصليل السيوف، والدسائس والمؤامرات، وجبال الجماجم للأخوة والأخوال والأعمام، والآباء والأشقاء.

ومهما تكن الأسباب الكامنة وراء مثل هذا التحرك الأخير، سواء كانت شخصية، أو قبلية، أو مرتبطة بأجندات سياسية حزبية أو إقليمية ودولية، فإنها تنم عن شيء واحد ألا وهو استمرار التعاطي مع مختلف الأزمات الناشبة بنفس تلك الطريقة التقليدية الشرق أوسطية من الاحتكام للسيف والسلاح بدل الحوار وصناديق الاقتراع. وأن التأسيس لثقافة الحوار والاحتكام لصناديق الاقتراع والآليات الديمقراطية الأخرى ما زال مبكراً الحديث عنها، وبعيدة جداً عن quot;شنباتquot; معظم رعايا الإمبراطورية العربية. وفي هذا السياق، لا بد للمرء من أن يعرج هنا على تجربة الفريق عبد الرحمن سوار الذهب في السودان الذي تنازل آخر، عن الحكم في سابقة عدت فريدة، معتقداً، وبكل طيبة قلب لا تنفع في حسابات السياسة مطلقاً، أنه سيؤسس لحالة ديمقراطية، لم تتقبلها بعد ثقافة هذه المجتمعات، وكان من نتيجة ذلك وقوع السودان بيد جماعة الإنقاذ الإخوانية التي أعادته قروناً ضوئية إلى الوراء وقدمت للعالم ذلك النموذج المتميز الذي يجسده اليوم عفاريت الجنجويد الذين تكاد لا تخلو منهم دولة شرق أوسطية حتى ولو اختلفت التسميات.

كان أمراً استفزازياً وغير مقبول البتة وخارجاً عن السياق، حين كانت تجري مناقشات وحوارات حول دراسة ظاهرة التجربة الديمقراطية الموريتانية، في الفضائيات العربية، واليوم فإن أي كلام عن ديمقراطية ما، في بلد يحمل كل المقومات التي تحملها منظومة الاستبداد البدوية حيث تختلط القبلية بالعبودية والتمييز العنصري، ويشتبك الدين مع السياسية، وتتناطح الأساطير والفكر الديني مع العولمة والتنوير والفكر الحديث، والعروبة مع الأسرلة، هو سابق لأوانه تماماً، وترف فكري، ولزوم ما لا يلزم، وزائد عن الحاجة.

فاللهم شماتة، ( هكذا، وعلى بلاطة وبلا مستحى منكم). وألف مرحباً، بالعودة المظفرة والقوية للشقيقة موريتانيا، إلى شقيقاتها الأخريات في نادي وسرب الاستبداد العربي والإسلامي المقيم، وبلا ديمقراطية وبلا أكل هوا.

وما أحلى الرجوع إليه، كما قال نزار.