يسعدني أن هناك من يقرؤوني بجدية وباهتمام، وقد استلمت رسالة قبل أيام من الدكتور عدنان الظاهر في ميونخ بألمانيا تحتوي على بعض النقد والنصيحة ؛ وإنا إذ أشكره بامتنان على النقد كما على النصيحة أراني راغباً في كتابة مقالة تتجاوز الرسالة للرد، نظراً لأهمية النقاط التي أثارها الدكتور الظاهر.
يتساءل الدكتور الظاهر كيف لي أن أدّعي بأن الذين استلموا القيادة في الحزب الشيوعي السوفياتي من بعد ستالين هم من البورجوازية الوضيعة (وتأبّى الظاهر أن يقول الوضيعة فقال الصغيرة علماً بأن الترجمة الدقيقة لكلمة ldquo;petiterdquo; التي استخدمها ماركس هي الوضيعة وليس الصغيرة) وسأل كيف يمكن أن تنمو البورجوازية في رحم الحزب الشيوعي؟
الإجابة الوافية على هذه المسألة الهامة تحديداً تقتضي العودة بداية إلى تاريخ الحزب الشيوعي السوفياتي الذي هو موضوع التساؤل. تشكّل quot;حزب العمال الإشتراكي الديموقراطي الروسيquot; في العام 1898، الذي أخذ إسم الحزب الشيوعي في العام 1912، من مجموعات من المثقفين في أنحاء متباعدة في روسيا القيصرية، فكان جميع قادة الحزب من أصول بورجوازية وضيعة، ليس بينهم أي عامل خلافاً لاسم الحزب، وبالرغم من أن لينين في مطلع شبابه في العام 1888 (18 سنة) كان قد شكّل منظمة سماها quot;تحرير قوى العملquot;. ويذكر في صميم الموضوع أن الرفيق ستالين (22 سنة) كتب في العام 1901 موضوعته الأولى تحت عنوان quot;الواجبات الملحة للحزبquot;، ينتقد فيها قيادة الحزب وكانت تضم بليخانوف ولينين لأنها تقصر اهتمامها على المثقفين دون العمال الذين هم أصحاب المصلحة الحقيقية في الثورة الاشتراكية ؛ والمثقفون، كما هو معلوم في التحليل الطبقي، هم من طبقة البورجوازية الوضيعة وليسوا من البروليتاريا في كل الأحوال. الحقيقة التاريخية هي أن حزب العمال الإشتراكي الديموقراطي الروسي قام، قيادة وقاعدة، على أكتاف مثقفين ثوريين من أصول بورجوازية وضيعة. صحيح أن انقسامه في العام 1903 بين البلاشفة والمناشفة أزاح البورجوازية اليمينية إلى قسم المناشفة لكنه لم يحرر حزب البلاشفة من طبيعة البورجوازية الوضيعة. لذلك ظل الحزب طيلة حياته يعاني من صراعات بين اليمين واليسار وهو الدليل القاطع على أن كوادره بمختلف درجاتها لم تتخلص من الطبيعة البورجوازية الموروثة. وفي العام 1922 نشر لينين مقالاً في البرافدا هدد فيه بالإستقالة من اللجنة المركزية لأنها عارضت بأكثريتها سياساته الأمر الذي كان يعني بالضرورة أن غالبية أعضاء اللجنة المركزية ليسوا بلاشفة حقيقيين أي أنهم لم يربطوا مصيرهم بمصير الطبقة العاملة كما فعل لينين، وهو ما يعني أيضاً أنهم ليسوا من خامة البروليتاريا. وفي ذات السياق وصف لينين تروتسكي في وصيته الشهيرة بأنه قليل البلشفية ؛ ومن يراجع محاكمة تروتسكي الصورية أمام جون ديوي عام 37 تزكمه رائحة البورجوازية الوضيعة العفنة تنبعث من كل تفوهات تروتسكي. رحيل لينين المبكر عام 1924 عمّق الإنقسام بين الجناحين اليساري بقيادة ليون تروتسكي واليميني بقيادة نيقولاي بوخارين لدرجة أنه أخذ يهدد مصير الثورة. لم يكن أمام خليفة لينين في القيادة، جوزيف ستالين، من مهرب سوى الاستعانة باليمين من أجل تصفية اليسار المتماهي مع الفوضوية بزعامة تروتسكي فكان أن طرد تروتسكي من الحزب ثم من الإتحاد السوفياتي عام 1928. أما اليمين بزعامة حبيب الحزب، بوصف لينين، نيقولاي بوخارين ورفيقه رئيس الوزراء حتى العام 29، ألكسي ريكوف فقد وصل بهم دفاعهم عن نمط الإنتاج البورجوازي الصغير لدى الفلاحين إلى خيانة الحزب والدولة وإعدامهما في العام 1938. وفي العام ذاته وبّخ ستالين رفاقه في المكتب السياسي لأنهم لا يقرؤون ماركس وهذا، بالنسبة لقياديين في الحزب الشيوعي، خاصية الطبيعة البورجوازية. وفي العام 1937 خطط القائد العام للقوات المسلحة المارشال توخاتشوفسكي وكان من قادة الحزب أيضاً للانقلاب على الحزب والدولة لأن الحزب لم يوافق على مخصصات مالية مرتفعة للقوات المسلحة وهذا عمل بورجوازي في غاية الدناءة. ليس لدي أدنى شك في أن ميولاً بورجوازية وضيعة لدى بيريا وخروشتشوف على وجه الخصوص، وربما مالنكوف أيضاً، قد لعبت دوراً حاسماً في رحيل ستالين مبكراً. لا يمكن تعليل الإنقلابات العسكرية وقد جرت من وراء الستار عام 54 وتم تبديل جيورجي مالينكوف بنيكيتا خروشتشوف، حصان رهان العسكر، كأمين عام الحزب ؛ وبصورة صريحة وفاضحة في العام 57 بعد أن سحب المكتب السياسي الثقة من خروشتشوف فكان عليه أن يتنحى إلا أن العسكر بقيادة المارشال جوكوف قاموا بحركة إنقلابية انتهت إلى تثبيت خروشتشوف في مركز القيادة وطرد جميع البلاشفة من المكتب السياسي للحزب (مالينكوف، مولوتوف، كاغانوفتش، شبيلوف، فورشيلوف وبولغانين) ؛ وانقلاب 64 ألذي أطاح بخروشتشوف لأنه عزم أخيراً على خفض الإنفاق العسكري ؛ وأخيراً إنقلاب 90 الذي انتهى إلى تفكيك الإتحاد السوفياتي وإلغاء شرعية الحزب الشيوعي ؛ لا يمكن اعتبار أي من هذه الإنقلابات خالية من الروح البورجوازية والفردية المقيتة. إزّاء كل هذه الوقائع الغريبة كل الغرابة على المسلك البروليتاري الثوري، مسلك لينين وستالين، لا يجوز بتاتاً القول بنظرية جديدة حول تواجد البورجوازية الوضيعة داخل الحزب الشيوعي السوفييتي وفي قيادته.
أما كيف تنمو البورجوازية أو الأحرى الطبيعة البورجوازية في رحم الحزب الشيوعي فذلك يعود لأمرين رئيسين، أولهما هو أن الشيوعيين الماركسيين حقاً إنما وفدوا إلى العمل الشيوعي من عائلات ذات تاريخ طويل في الإنتاج الفردي البورجوازي وكان من الصعوبة بمكان أن ينقطع الشيوعي عن تراثه العائلي بعد أن بزغ وعيه الأولي في مثل هكذا تراث، ولم يتمكن من الإنقطاع التام عن إرثه البورجوازي سوى شخصيات عبقرية واستثنائية جداً مثل ماركس وإنجلز ولينين وستالين. وثانيهما هو أن العمل السياسي كما العمل الحزبي هو في نهاية الأمر عمل بيروقراطي ومكتبي لم يتحرر إطلاقاً من طبيعته البورجوازية الفردية. الطبيعة البورجوازية الفردية تتواجد أيضاً في ثنايا دولة دكتاتورية البروليتاريا ولذلك يتوجب على قيادة الدولة أن تكون على جانب كبير من اليقظة الدائمة كيلا تستفحل الطبيعة البورجوازية للعمل المكتبي. أما أن تقوى البيروقراطية مهما توسعت على تقويض الدولة وخاصة دولة دكتاتورية البروليتاريا فإنما هذا فكرة تافهة يتذرّع بها خونة الشيوعية وأنصاف الماركسيين.
أما تمجيد وتقديس أشخاص من مثل ماركس وستالين، ففي الحقيقة أن تمجيد ماركس وستالين الذي يمارسه البعض له دلالته الأولية التي تؤكد صحّة طريقهما الخاصة بتطور المجتمعات البشرية، تلك الطريق التي تجهد مختلف القوى الرجعية والبورجوازية إلى طمسها. النضال الصعب، اليوم بشكل خاص، ضد القوى الرجعية والبورجوازية لا بدّ أن يمر بتمجيد كارل ماركس وهو الذي فتح أمام الإنسانية طريق التقدم السريع. فالتمجيد هنا له فعل سياسي واجتماعي وليس تمجيداً لذات الشخص كما يُرى للوهلة الأولى. فماركس قضى حياته مع عائلته في حالة بائسة وهو يبحث في كل ما وصلت إليه يداه حتى اكتشف القوانين التي تحكم التطور الإجتماعي بكل مراحله، وهو ما يساعد البشرية في تطوير حياتها وفي تكامل أنسنتها التي هي الهدف الأخير لبني البشر. ليس هذا وحسب بل أماط اللثام أيضاً عن القانون العام للحركة في الطبيعة الذي يحكم وجود الطبيعة بكل أكوانها، ووضع حدّاً لكل الفلسفات السابقة التي حاولت عبثاً تفسير العالم، ونقل الفلسفة إلى دائرة العلوم من أجل تغيير العالم بعد تفسيره. كيف لأي إنسان تقدمي بعد كل هذا ألاّ يمجد كارل ماركس وقد بنى منارة عالية لكل البشرية عبر التاريخ. لقد أبّنته إبنته إليانور فوق قبره بالقول حقاً.. quot; هذا الرجل الذي ستتتفاخر به الرجولة أبداً quot;. أما ستالين فتمجيده يأتي من أنه استطاع ما لم يستطعه غيره حتى اليوم من بني البشر. استطاع ستالين أن يكرّس كل حياته ساعة بساعة ويوماً بيوم من أجل تحقيق النصر الحاسم والنهائي للبروليتاريا، إنقطع عن كل مباهج الحياة وواصل يعمل 16 ساعة يومياً دون انقطاع، منذ 7 نوفمبر 1917 وحتى 2 مارس 1953 كي ينقل العالم، كل العالم، إلى الشيوعية. بالقيادة الحكيمة والمستنيرة بالماركسية اللينينية نقل ستالين مشروع لينين بالثورة الإشتراكية في دولة تبيت شعوبها على الطوى في العام 1922 وتعتمد على المحراث الخشبي تجره الحيوانات الأداة الرئيسة للإنتاج إلى دولة اشتراكية وأعظم وأقوى دولة في العالم. إن الذين يعتبرون تمجيدنا لماركس وإنجلز ولينين وستالين على أنه طقس من طقوس عبادة الفرد يتوجب التخلي عنه، فإنما هم بوعي أم بدونه يعملون على تخلّي البشرية عن الطريق التي فتحها لها آباء الشيوعية نحو فجر جديد لا أثر فيه للقهر والخوف والإستغلال، فجر يتطهر فيه الإنسان من كل آثار الوحشية التي تحدّرت إليه من أصوله الحيوانية عبر ملايين السنين. لئن كان علينا ألا نمجد ماركس وإنجلز ولينين وستالين فمن نمجّد إذاً، إذا ما كان في الحياة الإنسانية أي طقس للتمجيد؟ إن تمجيدنا لآباء الشيوعية إنما يهدف أولاً وأخيراً إلى التأكيد القوي المتواصل على أن طريق التطور التي فتحها هؤلاء الأفذاذ أمام البشرية هي الطريق الوحيدة الكفيلة بخلاصها من مختلف العثرات. أما بشأن التقديس فلئن كان التقديس يقتصر على ما هو خارج الطبيعة فإن وجود ماركس وستالين في أبرز معالم الحياة على الأرض، وهو ما لم يوازه وجود أي كائن آخر، من شأنه أن يحول دون أي تقديس لهما. الثلث الأخير من كتابي quot; من هو ستالين؟ وما هي الستالينية quot; اشتمل على نقد عام لشخص ستالين الأمر الذي يدحض كل دعوى بالتقديس.
أعداء التقدم من مختلف صنوف الرجعية يحاججون صباح مساء بالزعم أن التقادم قد جرى على الماركسية أو على أجزاء منها على الأقل. والعجيب في الأمر أن هؤلاء يدحضون ماركس بالاستناد إليه !! يقلبون الحقائق ويسيئون عامدين تفسير ما كتبه ماركس وإنجلز كمقدمة لطبعة البيان الشيوعي بالألمانية في يونيو حزيران 1872 يؤكدان فيها صحة المبادئ الرئيسية في البيان ليدّعوا كذباً وبهتاناً أن ماركس وإنجلز نفسيهما اعترفا بتقادم أجزاء من البيان الشيوعي (manifesto)، في حين أن كل ما قالاه هو أن بعض العبارات المتعلقة بالعلاقات بين المنظمات والأحزاب تحتاج إلى إصلاح (improvement) واستدركا بالتأكيد على أن البيان الشيوعي نفسه كان قد أشار إلى ذلك. ما كتبه مؤسسو الشيوعية أو الأحرى مكتشفوها، الذين وصفهم الدكتور الظاهر بالأفذاذ، لم يحاك سوى ما كان في عصرهم بل إنهم نبهونا إلى أن من يأخذ به حرفياً فلن يعود منهم. لأن كل الأشياء بكل شروط وجودها تتغير وتتبدل بين لحظة وأخرى. لكننا ونحن نؤكد هذا الأمر يلزمنا أن نشير مع ذلك إلى أن نقد النظام الرأسمالي سيظل صحيحاً طالما أن نظام الإنتاج القائم هو نظام رأسمالي والذي لا بدّ أن ينتهي إلى الثورة والإنتقال إلى العبور الإشتراكي تحو الشيوعية بقيادة دولة دكتاتورية البروليتاريا قصراً. كل دعاوى الإشتراكية الخارجة عن إدارة البروليتاريا وقيادتها إنما هي خداع وتضليل يستهدفان قبل كل شيء الحؤول دون الإنتقال إلى الاشتراكية.
كل الشيوعيين الذين وفدوا إلى العمل الشيوعي من شتى أطياف البورجوازية تقريباً يدّّعون اليوم، بعد أن تهاوى بنيان المشروع اللينيني، أن دولة دكتاتورية البروليتاريا إنما هي فكرة متطرفة وغير ديموقراطية. مثل هذا الإدعاء يمثل في النهاية خيانة فظة للبروليتاريا ؛ ومع ذلك يتوجب علينا الإقرار هنا أن أصحاب هذا الإدعاء ليسوا جميعهم من الخونة ؛ ثمة كثيرون منهم لم يسبق لهم أن أدركوا إدراكاً تاماً وشاملاً طبيعة دولة دكتاتورية البروليتاريا. يجهلون أن الديموقراطية في ظل دولة البروليتاريا الدكتاتورية هي أرقى كثيراً منها في ظل دولة الديموقراطية البورجوازية. وأول دلالات ذلك هي قيام دكتاتورية البروليتاريا بمنع القوى الرجعية من العمل لاستعادة الامتيازات الطبقية من خلال استغلال الإنسان لأخيه الإنسان. يعيبون على دكتاتورية البروليتاريا ما هو أولى فضائلها ومحل فخارها. سماح دولة الديموقراطية البورجوازية بالاتجار بقوى العمل البشرية إنما هو أكبر عيوبها ومثالبها ؛ الإتجار بقوى العمل البشري لا يختلف نوعاً عن النخاسة وتجارة الرقيق. الديموقراطية الإشتراكية قبل صعود خروشتشوف سدة السلطة كانت تسمح لأي مواطن بكل شيء عدا ما يشينه. كثيرون هم الذين عارضوا ستالين وجهاً لوجه دون أن ينالهم حيف يذكر. فياتشسلاف مولوتوف ظل كثير الإعتراض على قرارات ستالين واقتراحاته، كما يؤكد في مذكراته، وظل مع ذلك رئيساً لمجلس الوزراء منذ العام 1929 ـ 1941 ثم وزيراً للخارجية حتى العام 1952 قبل رحيل ستالين ببضعة أشهر فقط. أما عندما جاء خروشتشوف بصيحة الديموقراطية على الطريقة البورجوازية فقد ظهر فجوره الفاضح سريعاً وقام بإنقلاب عسكري ضد رفاقه البلاشفة في المكتب السياسي في حزيران 1957 لأنهم سحبوا الثقة من وكان عليه أن يتنحّى. ثم لم يمهل قائد الإنقلاب المارشال جوكوف بعد أن رقّاه لرتبة العضوية الكاملة في المكتب السياسي للحزب، لم يمهله لبضعة أشهر قبل أن يقوم بطرده من كافة مناصبه في الحزب وفي الدولة وفي الجيش خشية أن يكرر الإنقلاب مرة أخرى ضده. تلك هي الديموقراطية غير الإشتراكية.
الشيوعيون سابقاً يبررون شيوعيتهم القديمة بالإدعاء أنهم ما انخرطوا في العمل الشيوعي إلا بدافع العدالة الإجتماعية ويكملون بالقول إذا الإشتراكية ماتت فالعدالة الإجتماعية لن تموت. بمثل هذه الأقوال يدلل هؤلاء على جهل فاضح في الفكر الماركسي. صحيح أن كارل ماركس انضوى في شبابه لمنظمات تدافع عن العمال ولولا ذلك لما نجح في اكتشاف أهم القوانين الاقتصادية وحقق نظرية هي عمارة سامقة في حقل العلوم. الحقيقة التي لا شبهة فيها تقول لو أن ماركس كتب ما كتب وبحث ما بحث من أجل إقامة العدل بين الناس لما كتب علماً ولما بنى عمارة علمية يدخلها أهم العلماء. كيف لطبيب يقرر العلاج قبل أن يفحص المريض ويتحقق من المرض؟ وجد ماركس أن الشيوعية نمط لازم من الحياة بعد اندثار الرأسمالية بغض النظر فيما إذا كان عادلاً أم غير عادل. وللمحاكمة الدقيقة يمكن القول من منطلق الحقوق (وهو دائماً منطلق بورجوازي) أن الحياة الشيوعية لا تتسم بالعدالة حيث أن نصف الشعب الذي لا يعمل ولا ينتج يأخذ مع ذلك نصف الإنتاج وهذا ليس من العدالة بشيء.
كل الذين يرفضون مبدئياً الدكتاتورية لا يعرفون أن مختلف المجتمعات الطبقية استخدمت الدكتاتورية كأداة قمع دولاتية. وأقرب مثال على ذلك هو ظهور النظام الرأسمالي الموصوف اليوم بالديموقراطي. ما كان النظام الرأسمالي لينمو ويسود في مجتمعاته إلا بتحطيم وسائل الإنتاج الفردية مثل صناعات المانيفاكتورة بداية ثم الفلاحة كنمط فردي في الزراعة من بعد. عندما شدد كتاب البورجوازية الهجوم على مبدأ دكتاتورية البروليتاريا رد عليهم ماركس بالتأكيد أن دكتاتورية البروليتاريا لن تقوم بجرائم التصفية الفظيعة التي قامت بها الدولة الرأسمالية دون أن تسأل عن مصائر المنتجين في الصناعات الفردية الصغيرة. ستقوم دكتاتورية البروليتاريا بتصفية نمط الإنتاج الرأسمالي وما تبقى من نمط الإنتاج الفردي لكن لن تترك هؤلاء المنتجين للضياع كما فعلت الدولة الرأسمالية بل ستؤمن لهم ولعائلاتهم الحياة المنتجة الكريمة. إذاً الدكتاتورية أداة لا غنى عنها في المجتمع الطبقي. العبور من الرأسمالية إلى الشيوعية لا بدّ أن يمر عبر برزخ الإشتراكية. والمجتمع على طول هذا البرزخ الذي يعقب الثورة مباشرة هو مجتمع طبقي يقوم على الحقوق البورجوازية مثلما كان عليه الحال في المجتمع السوفياتي. باستثناء طبقة البروليتاريا كان في المجتمع السوفياتي طبقة أخرى واسعة لا تقل مساحة عن مساحة البروليتاريا هي الطبقة الوسطى. كان هناك الفلاحون التعاونيون الذين ينتجون لأنفسهم وكان هناك الموظفون في أجهزة الدولة والحزب وكان هناك العسكر. انهار الإتحاد السوفياتي بفعل الضربات القوية المتوالية من الطبقة الوسطى بشريحتيها، العسكر والفلاحين، بغياب دكتاتورية البروليتاريا فعلياً ثم رسمياً في المؤتمر الحادي والعشرين للحزب 1959. فبدل أن كان الحزب يبحث في إلغاء طبقة الفلاحين مرة واحدة وإلى الأبد في العام 1950 [ راجع القضايا الإقتصادية للإشتراكية في الإتحاد السوفياتي ـ ستالين ] جاء خروشتشوف في العام 1957 يردد نداء بوخارين في العام 1925.. quot; أيها الفلاحون اغتنوا بأنفسكم quot;. نستنتج من كل هذا أن دكتاتورية البروليتاريا هي أداة لا غنى عنها من أجل تصفية وسائل الإنتاج البورجوازي تمهيداً للانتقال إلى الشيوعية حيث لا دولة ولا ديموقراطية ولا حرية لانتفاء الحاجة لكل هذه المسميات.
مثلما يجهل العامة، بل والخاصة أيضاً، دكتاتورية البروليتاريا تبعاً لجهلهم بالإشتراكية إذ يحسبونها نظاماً إجتماعياً مستقراً يقوم على علاقات إنتاج معروفة وثابتة بينما هي ليست أكثر من برزخ عبور بين الرأسمالية والشيوعية يتم أثناء عبوره محو الطبقات بتعبير لينين، مثلما يجهلون ذلك فإنهم يجهلون أيضاً جوهر الصراع الطبقي. ينظرون إلى سطح الصراع الخارجي فيرون الطبقات ليست على وفاق وتتصارع بسبب الكراهية المتبادلة الناجمة عن أطماع الطبقة الدنيا بثروة الطبقة العليا، كما بالتعليل السطحي السهل. وغالباً ما تتكون القناعة العامة بوجوب التصالح والتواد بين الطبقات من أجل السلم الأهلي الذي من شأنه أن يساعد على تطور المجتمع بصورة مريحة. الحقيقة هي العكس تماماً من هذه القناعة الرائجة بين الكتاب ومثقفي البورجوازية، بل ومؤخراً بين الشيوعيين سابقاً من ذوي الأصول البورجوازية الوضيعة ـ ألم يصدر خروشتشوف في العام 59 مراسيم الأخوة والود بين طبقات المجتمع السوفياتي، وتساءل بغباء قمين بكل السخرية.. لماذا يتصارع السوفياتيون؟ ألِخدمة الأعداء؟!!
تتشكل الطبقات المختلفة تبعاً لاختلاف وسائل الإنتاج. فلكل طبقة وسيلتها الخاصة بها للإنتاج. ففي المجتمع الرأسمالي مثلاً يمارس الرأسماليون وسيلتهم الخاصة في الإنتاج من خلال الإتجار بقوى العمل البشري. أما العمال فوسيلتهم الوحيدة هي بيع قوى العمل المتجددة في أبدانهم للرأسماليين. ووسيلة الطبقة الوسطى هي العمل في إنتاج الخدمات وبيعها للرأسماليين لاستخدامها في تطوير وتحسين دورة الإنتاج الرأسمالية. للضرورة الحيوية تتبادل هذه الطبقات منتوجاتها في السوق ؛ وتجهد كل طبقة لأن تحوز على أعلى البدلات لمنمتوجاتها، وهنا يكمن جوهر الصراع الطبقي. عبثاً يشير المرء على هذه الطبقات ألاّ تتصارع، فلكأنه يقول للمشاركين في السباق أن ليس ثمة جوائز من أي نوع للفائزين ـ فلماذا السباق إذاً؟! لن ينعقد السباق في هذه الحالة. لكن على الطبقات أن تنتج كيلا تموت. من هنا قال ماركس أن الصراع الطبقي هو محرك التاريخ والقلب النابض للتطور الإجتماعي. عبثاً يكتب السياسي المهموم بتطور المجتمع دون أن يبني أفكاره على أساس الصراع الطبقي. لن ينتهي الصراع الطبقي إلا في الشيوعية حين لا يكون في المجتمعات سوى وسيلة واحدة للإنتاج هي الوسيلة الجمعية الطوعية.
نصحني الدكتور عدنان الظاهر بألا أكتب عن القديم المعروف وأن أعنى بالجديد المثير للقراءة. وأنا إذ أشكره بامتنان عميق مرة أخرى على هذه النصيحة الثمينة فإنني ألفت نظره الكريم، وهو المحب للقراءة كما يبدو من رسالته، إلى أنني الماركسي الوحيد ربما الذي بنى معماراً جديداً تماماً على أسس الماركسية الراسخة. من يقرؤوني جيداً يتحقق من تصميم هذا المعمار من بنائه كما من تسليحه وخاصة في كتابي quot; جديد الإقتصاد السياسي quot; المنشور في موقعي الألكتروني أدناه، ثم في مقالتي بعنوان quot; إعلان رامبوييه أخطر إنقلاب في التاريخ quot;. المسألة التي أواجهها دون أن أنجح في حلّها هي أن أحدا لم يجروء حتى اليوم على كتابة نقد واف ٍلمعماري الجديد الذي يفيد أن النظام الرأسمالي قد انهار في سبعينيات القرن الماضي واندثرت معه الإمبريالية إلى الأبد لكن ذلك لم يتحقق لصالح الثورة الإشتراكية كما استهدف مشروع لينين بسبب انتصار الطبقة الوسطى قبلئذٍ في النظام السوفياتي. الطبقة الوسطى تسود العالم اليوم سواء في البلدان الإشتراكية سابقاً أو في البلدان الرأسمالية سابقا وتسود أيضاً في بلدان العالم الثالث.
ومع ذلك يفاجئني الدكتور الظاهر باتهامي بالتعلق بالأفكار القديمة حيث أنني لا أتذكر أن كتبت مرة دون أن أعالج فكرة جديدة أو فكرة طارئة وذات أثر عميق في بنياننا الفكري.
فـؤاد النمري
www.geocities.com/fuadnimri01
التعليقات