ظلت إسرائيل، في المخيال والوجدان الشعبي العام في عموم المنظومة الاستبدادية الشرق أوسطية، رمزاً للشر والبغي والإثم والعدوان والطغيان. وظلت ماكينات الدعاية والتلفيق والكذب الرخيص تصور هذا الكيان quot;السرطانيquot; على أنه السبب الرئيس في كل ما يتعرض له المواطن العربي من مآس وشرور وطعنات كثيرة أفقدته توازنه وسلبت منه كل قيمة، وأي معنى كريم لوجوده وحياته.

ولكن، ومع تراكم حقب الاضمحلال والضمور والانهيار العربي الشامل خلقياً وسلوكياً وحضارياً، فإن أحداً لم يعد يقبض كلام ماكينات الإعلام البدوية تلك، وربما كانت الصورة معكوسة تماماً، فأصبح الخروج من الجحيم العربي هو الهمّ الأول والمشترك لكل أشباه الكائنات الآدمية التي تهيم على وجهها بدون أي هدف على أديم الأرض العربية الملغومة بشتى أنواع المتناقضات والصراعات والخلافات والإشكاليات التي لا يبدو أن حلاً قريباً لها في الأفق على الإطلاق. ولم تعد مدن وممالك القهر والبؤس العربي قاطبة تبعث في نفوس مواطنيها( هل قلنا مواطنين؟ عذراً)، بل رعاياها وعبيدها المساكين أي شعور بالطمأنينة والراحة والأمان، وأصبح الفرار، والخروج من السعير، حتى إلى quot;الكيان السرطانيquot; المخيف، هو الحل والأمان. فمن كان يتصور، من فلول ما تبقـّى من بلاشفة وثوريي وقومجيي العرب المهزومين، أن يتحول حلم الدولة الفلسطينية العتيد إلى مجرد صراع رخيص على quot;مربعاتquot; أمنية وعائلية، ومناطق نفوذ مافياوية، بين مجموعات من القبضايات والشبـّيحة والزعران والميليشيات التي لا تخاف الله، لم يجد معها، من ليس له ناقة ولا جمل سوى الفرار واللجوء إلى إسرائيل لكي ينفذ بجلده من صراع الأخوة الأعداء؟

نعم إسرائيل، وليس غيرها من ديار العرب والمسلمين (حيث العدل والتراحم والبنيان المرصوص والمرصوف كما يرطن جيوش الفقهاء الذين تناسلوا، وبأكثر من quot;الهم على القلبquot;، في فضائيات عربية)، صارت هي وجهة وقبلة ومقصد من هم لا في عير ولا نفير حكوماتهم، من كل الحسابات في مزايدات الأوطان، ولاسيما بعد أن أغلق الأشقاء مؤازرة لإسرائيل ودعماً فقط لسياسة الفصل العنصري ليس إلا، جميع المنافذ والبوابات، التي لا تسمح حتى للجني الأزرق والأوكسجين ونسمات الهواء بالعبور والتنقل فيما بين الأشقاء.

وفي الحقيقة فإن العرب الكبار، من نجوم الفساد المصابين بحمى ونهم اليورو والدولار، والذين لا تطيب لهم الحياة والاستقرار سوى في بلاد المشركين والكفار، وممن لا يتورعون عن فعل أي شيء مهما بدا صادماً، ومتناقضاً مع كل ما تتعارف عليه أبسط معايير السلوك البشري السوي، قد صاروا هم أيضاً، وبالفعل مصدر قلق وكابوس مؤرق ومزمن، وعامل طرد وتهجير للناس، استبدل فيه الدور القديم الذي كانت تلعبه إسرائيل في المخيلة والوجدان العام ليقوم به هؤلاء الأشقياء. ورغم أن أولئك المهجرين البؤساء يعلمون الحقيقة القاتلة والقائلة بأن quot; من خرج من داره قل مقدارهquot;، وquot; خيركم خيركم لأهلهquot;، فقد خرجوا من دارهم لأنهم يعلموا تمام العلم بأنه لم يعد لهم أي quot;قيمة ومقدارquot;، على أي شبر هذا الكون الفسيح، وليس فيهم أي خير لا لأهلهم ولا لسوى أهلهم على الإطلاق،( في الحقيقة لم يتركوا فيهم أو أي خير)، وصاروا يستجدون حتى دقيقة الأمان، و تصرفوا على مبدأ المتنبي القائل أنا الغريق فما خوفي من البلل. نعم لقد ضاقت الأرض العربية التاريخية بالعرب الفقراء، ولم تعد تقبل أن يتعايش فيها أخوة الدم والأشقاء.

والأنكى والأشد إيلاماً ووقعاً على النفس من كل ذلك، أن إسرائيل نفسها رفضتهم ولم تتقبل هؤلاء، وأعادتهم على أعقابهم إلى ديار الإسلام الحبيبة. فإسرائيل صارت وبرغم معاهدات السلام والدجل الفارغ، وبالاحتلال وبدونه، هي التي أصبحت تتحكم بوضع ومصير العربان. ولكنها ، في نفس الوقت، وتأكيداً quot;لحياديتها ونزاهتهاquot; ليست مستعدة أن تتولى مسؤوليتهم فـquot;جحا أولى بلحم ثورهquot;، أو أن quot; تحمل الهم عن قلب صاحبوquot;. لقد تحول العربي الرخيص، إلى هم وعالة على نفسه وعلى الجميع، ولم يعد يجد من يتقبله، لا في الشرق ولا في الغرب، ولا حتى في دولة العدوان الخارجة عن القانون الدولي كما يتفلسف سحرة الإعلام العربي الدجـّال. وإذا ما استمرت فضائح ومخازي ومهازل العرب فلن يبقى عربي واحد، بمشيئة وفضل الله ، في هذه الأرض القحط اليباب.

نضال نعيسة

[email protected]
[email protected]