المجاميع التي تحمل سلاح المقاومة الآن وسابقاً ، ترى ان الانتصار يعني ، هو القدرة على ايقاع اكبر عدد ممكن من الخسائر في صفوف العدو. ولايُنظَر هنا الى الخسائر التي تقع في صفوف هذه المجاميع ، حتى لو كانت نسبتها اكبر بكثير من نسبة خسائر العدو ، إلاّ من منظار التضحية في سبيل المفاهيم الأخلاقية والمبدئية التي يقاتلون من اجلها مثل ( العزة ، الكرامة ، الوطن ، الدين... الخ ).
ونحن هنا لانجادل ضد هذه المفردات بحد ذاتها ، وانما جدلنا ينصب حول دلالاتها المتوارثة منذ زمن بعيد. وهي دلالات نرى بأنها لاتناسب حركة التأريخ ، ولاتناسب ارض الواقع الذي هو معيارنا قبل كل شئ لصحة وخطأ هذا الشئ او ذاك.

***

ذات مرة ، رفعنا شعاراً ، يقول ( نحيا ويموت الوطن ). وكان هذا الشعار ، محاولةً منا لإعادة قراءة مفردة الوطن ، وإعادتها الى مكانها المناسب كما نرى. وحينها خرج علينا احدهم بعد ان قرأ شعارنا بشكل غير سليم ، وراح يتهمنا بالتخلي عن الوطن وهمومه وقضاياه وما الى ذلك من الأمور.


كانت الديكتاتوريات في السابق ، وخصوصاً الديكتاتورية التي هُزمت في بغداد عام 2003 ، تحمل الشعار معكوساً ( نموت ويحيا الوطن ). اي ان الانسان يجب ان يموت من اجل الوطن. ولكننا حينما نتأمل الأمر بشكل دقيق ، سنرى ان الوطن هنا محمّل بمفهوم لاإنساني ، وخالي من الحميمية والجمال ، بل وغبي بشكل ملحوظ. فإذا مات الانسان ، ماذا تبقى للوطن؟ وماهو الوطن؟ هل هو الانسان ام التراب؟


البعض يقول ان المقصود بالشعار هو تضحية الفرد من اجل الجموع التي تسكن الوطن. ولكننا نرد على الأمر ونقول ، ان الجموع إذن تملك في هذه الحالة حساً انانياً كبيراً لايمت للانسانية بصلة ، لأنها قبلت ان يضحي الفرد بذاته وكينونته واحلامه من اجلها.
نحن نرى ان الفرد الذي يحكم الجموع بيدٍ رعناء هو من يريد الجموع ان تضحي بنفسها من اجل بقائه ، وهو ماحصل بالفعل على مر تأريخ الديكتاتوريات.


المقصود من كلامنا هنا ، هو اننا لسنا ضد مفردات مثل ( الانتصار ، العزة ، الكرامة ، الوطن... الخ ) بحد ذاتها وانما نحن ضد محمولاتها المنطلقة من عقلية بدائية وقبلية وانانية قاتلة.

***

نرى مثلاً ان الانتصار في قاموس المقاومة المسلحة ، يحمل حساً سادياً لايمكن غض النظر عنه ابداً ، لأنه كما يبدو هنا ، يكمن في التلذذ في تعذيب العدو ، ومن ثم في سرقة الحياة منه. وفي الوقت ذاته ، نرى انه يحمل حساً مازوخياً واضحاً ، وذلك من خلال التلذذ بالموت الواقع على بعض افراده ، بل ومن خلال التغني بمفردات الشهادة والتضحية ، التي لانعرف مامدى الفائدة التي تحصل عليها الجموع من حدوثها.


فائدتها الوحيدة كما نرى ، هي إرضاء المشاعر القبلية الساذجة ، والمتغلغلة في اعماق افراد المقاومة ، وفي اعماق من يؤيدها من الجموع الغفيرة ، بل وفي اعماق الكثير من المثقفين الذين يؤيدون هذا الشكل من المقاومة ، حتى لو كان منطلق هؤلاء المثقفين يختلف عن منطلق او ايدولوجية المقاومة. وهذه هي كارثة الكوارث.

***
الانتصار في قاموس المقاومة ، يحمل حساً تدميرياً سيبقى فيها حتى في زوال العدو او المحتل من بلادها ، وذلك لأن من يؤمن به سيتطبع عليه ، وسيطبقه ، ضد افراد الجموع التي ادعى بأنه قاتل من اجلها ، وخصوصاً في الأزمات السياسية التي ستواجهه لاحقاً. ذلك لأنه أيقن بأن وسيلة محو الاخر المختلف عنه من الحياة ، او تهميشه واقصائه على الأقل ، هي الوسيلة الانسب لتحقيق الانتصار ، وللحفاظ على مكتسبات المقاومة.

***

ولتحقيق هذا الشكل من الانتصار ، تلجأ المقاومة الى تشويه عدوها بشتى الطرق تشويهاً مطلقاً ، مع انه مشوّه بالأساس.
وتلجأ ايضاً الى غلق كل المنافذ العقلانية والمنطقية والبراجماتية للتعامل مع العدو إغلاقاً تاماً ، لأنها لاتستطيع ان تتنفس من خلال هذه الرئة من جهة ، ولأنها تريد تجييش الحس العدائي الى ابعد مدياته في نفوس الجموع المؤيدة لها من جهة اخرى.
المقاومة ، كثيراً ماتعيش على الكذب والتضليل ، من اجل استفزاز الرغبة القتالية الكامنة في اعماق افرادها ، ومن اجل عدم اعطاء العقلانية ان تاخذ مجراها الطبيعي وزمنها المطلوب.


المقاومة ، تحمل مبررات استمرارها في حسها السادي والمازوخي دائماً من خلال تكرارها لجملة: ان العدو لايعرف سوى هذه اللغة. أي لغة القتل والقتال. هذا هو المبرر الأكبر لكل مقاومة مسلحة على مر التأريخ. ومن دون هذه الجملة لاتستطيع الاستمرار ابداً.


المقاومة بهذا الشكل دائماً تنسى الشكل الآخر منها ، الا وهو الشكل السلمي والبنّاء ، تحت هذه الذريعة.
المقاومة المسلحة تسيرها الأخلاق القديمة المتأسسة على فعل الموت ، بينما المقاومة العقلانية تسيرها الاخلاق الجديدة المتأسسة على فعل الحياة.


المقاومة هنا تحترم الموت وتقدسه وتتغنى به ، لأنها لاتعي المعنى الحقيقي للحياة ، وبالتالي لاتحترمه.
المقاومة تكره المنطق والعقل. وإن استخدمتهما ، فإنها تستخدمهما لأغراض قتالية وليس لأغراض سلمية.
المقاومة ، دائماً تدلل في انتصارها على العدو ، من خلال كمية الخسائر المادية التي توقعها به ، مع ان هذا الشئ ، لايقدم ادنى فائدة حقيقية للمجتمع الذي يقاوم من اجله. بل انها تتناسى كمية الخسائر المادية التي يجلبها فعلها هذا عليها وعلى مجتمعها بفعل مقاومة العدو لها.


هذه المقاومة لاتقدم سوى الخراب لمجتمعها ، وذلك لأنها تتحصن به ، ولأنها لم تأخذ رأيه في شكل مقاومتها.
المقاومة بهذا الشكل ، تسرق رأي المجتمع وتجيّره لصالح مفاهيمها المتكلسة.
المقاومة ضعيفة منطقياً ومعرفياً وعقلانياً ، واكبر دليل على ذلك هو ان كل من يختلف معها تتهمه بالعمالة والخيانة. وحينما تسألها: هذا المختلف عميل لمن ، وخائن لمن؟ ستجيبك بأنها عميلة للعدو ، وخائنة للمفاهيم التي تتمسك بها. مع انها هي العميلة والخائنة ( حسب منطقها ). فهي عميلة لمفاهيمها المريضة ، وخائنة لمجتمعها الذي لم تأخذ رأيه بشكل مقاومتها.

***

المقاومة تشترك بقوة مع الحركات الدينية التكفيرية بشئ:
التكفيري يقول لمن يختلف معه: انك كافر.
والمقاوم يقول لمن يختلف معه: انك خائن.

***

الانتصار الحقيقي ، كما نرى هو في بناء الذات ، وتحصينها إزاء الآخر ( العدو المحتل ) مثلاً ، على الرغم من ان المقاومة سترد على هذا الرأي ، بأن العدو لايعطيك المجال لتحقيق هذا الامر. وهذا هو شعارها الدائم الذي لاتستطيع العيش من دونه.
الانتصار الحقيقي ، يكون تصاعدياً ، اي انه القدرة على تحقيق ادنى الحاجات الحياتية اليومية التي يحتاجها المجتمع صعودا ًالى اكبرها.


الانتصار الحقيقي ، يكمن في العلم والمعرفة.
الانتصار الحقيقي ، يكمن في الحفاظ على الانسان ، وعلى التعامل معه على انه قيمة كبيرة لايجب التفريط بها تحت أي مسمى او مفهوم. ومن اجل هذا الانسان يجب ان تموت مفاهيم العزة والكرامة بمفهومها التقليدي المتكلس ، الذي انتجه اناس بدائيون عاشوا قبل الاف السنين في ظل ظروف ومناخات مختلفة لم تعد تناسب ظروفنا التأريخية الحالية.
الانتصار الحقيقي ، هو في مقاومة العدو جوانياً وليس برانياً ، ولهذا نحن نؤيد ( غاندي ).
كل حركات المقاومة على مر التأريخ يبرز فيها ( غاندي ) ، إلاّ ان اصحاب الحس القتالي يقتلونه دائماً ، او يهمشونه ، لأنه لايلبي رغباتهم ، ولايتماشى مع حسهم القبلي ومشاعرهم الساذجة في التعامل مع الاشياء.
والان نسأل ، اين هو الانتصار في كل ماتقوم به حركات المقاومة في هذه اللحظة التأريخية؟
انها دعوة للتساؤل والتأمل فقط.


باسم الانصار
[email protected]