في الحدود السعودية - العراقية عام 1991، ونحن ملوثون ساقطون ومنهزمون من حربين،حرب الرئيس،وحربنا ضده،في الصحراء الممتدة مع السماء والعالم وعلى بعد 15 كيلومترا من حدود العراق تخيمنا، وتخيّمنا كان بلا أمل،العراق ليس بساكن بعد، أخرج من الخيمة أسأل عن صديقي القريب فريد ماضي، فلا أجده، وذهبت للبحث وكان فريد ينوي العودة إلى العراق لتحريره خاصة وإن (الانتفاضة الجنوبية لازالت طرية) مع مجموعة شيوعية شابة متحمسة،فقلت مازحا ً حزينا ً عودوا فالرئيس بوش اتفق على التسوية مع الأطراف،في ليلة ظلماء، ودعت فريد ولم يودعني (( احتقارا ً )) وهو يرتدي بجامة (سعودية زرقاء مخططة) على حافة شرك المخيم، وحين وصوله إلى الناصرية جنوب غربي الفرات وبعد ثلاثة أيام إختفى فريد ماضي في العراق حتى اليوم.

تم في 1991 وفي أوج هزيمة الدولة العراقية الحديثة، إطلاق تسمية (صفحة الغدر والخيانة ) علينا نحن اللاجئين الذين نقطن (الحدود العراقية السعودية) إعلاميا ً أولا ثم رسميا ً وعلانية ً،واشتغل الكثير من الصحفيين والكتاب والمثقفين والفنانين على فلسفة انحرافنا وانحطاطنا وخيانتنا الوطنية، وقيل إنا غدرنا بقائد الأمّة الفذّ، وقيل إنه قد قمنا بحرق الدولة والبلد، وقيل لولا فطانة القائد فقد ضاع العراق، ونحن كنا أقل من ثلاثين ألف لاجئ من ضمنهم نساء وأطفال، أمضينا في اللجوء الصحرواي أكثر من أربع سنوات، مارسنا فيها الرياضة خاصة (كرة المنضدة ) والبليارد والكتابة والرسم والشعر، رغما عن الواقع العراقي غير المألوف الذي فرضه الأخوة الإسلاميون من المتشددين علينا في عزل لجوئنا إلى ذكر ومؤنث، أي عزاب وعوائل حسب المفهوم الدارج آنذاك وحسب ظني حتى الساعة الرجل عازب والمرأة عوائل بالنسبة لهم...!!.

ومع وطأة الحصار المفروض على العراق، كان لدينا لاجئون عراقيين يختلفون في النيات وفي المصائر، منهم من عبر إلى الأردن وبكى أمام الأمم المتحدة في قصص حقيقية وقصص مختلقة كتبوها فنانون لاجئون مختصون في الدراما مقابل حفنة من الدولارات لكنها أدت الغرض ووفقت في الأهداف والدولارات أغلبها كانت تأتي من الخارج والأردن واقتصاده سعيدان بما يجري، ومنهم من عبر إلى سوريا حيث الوطن الآخر الذي يحترم فيه العراقي أكثر من غيره، وخاصة المعارض العراقي فسوريا وإيران الإسلامية والمبادئ القومية والاشتراكية والشيوعية عبارة عن خلطة دائمة للربح...أمام الصهيونية وإسرائيل.

المشكلة العراقية إن طبقته الوسطى المثقفة تم القضاء عليها بكل السبل، فأصبح مثلا العاملون في مجال الإعلام والفن لا يرتزقون من المنح والمكافآت المتعودين عليها قبل الحصار، فشدوا الرحال لاجئين، وكتبوا ومنهم مثلوا وغنوا ضد صدام وحكومته، مما جعلهم يستحقون اللجوء في أنظار الأمم المتحدة وفساد موظفيها في الأردن خاصة وباقي البلدان العربية، ومن ذلك دفع أغلب العراقيين إلى التفكير في الهجرة، ومن باب أول أجد إن العراق تخلص كثيرا من شرذمة لاتمت له بصلة سوى بحكامه وما يتعلق بهم من البهرجة والخدع،ومن باب ثان أجد إن العراق لا يحتاج مثقفين وفنانين وفلاسفة أكثر من عمال مهرة مختصين صناعيين وزراعيين في تأسيس دولة جديدة.

سقط صدام في 2003 فرح الناس ولم يفرحوا لاحقا ً،وكان لجوء العراقيين إلى دول الجوار والهجرة غير طبيعي، فهي فرصة كبيرة للخروج من بلد غير مستقر على الدوام تاريخيا وتأريخيا ًً،بحثا ً عن الآمن المفقود، والحياة اللائقة،بل أصبح العراق ملجأ للاجئين عراقيين في داخله، لكن المثير بالأمر القصص الأخيرة المفزعة التي يتحدث فيها اللاجئون الطازجون توا ً، مثل أن أحدهم تم اختطافه وقامت عائلته بدفع الفدية، وبعد إطلاق سراحه قررت العائلة تهريبه إلى خارج العراق وحين وصوله إلى أوربا وفي مركز احتجاز اللاجئين بادره شخص لاجئ عراقي هو الأخر بسؤال:هل تعرفت عليّ،صعق اللاجئ: أنت الذي قمت باختطافي،فأجابه الآخر نعم وبدولارات أهلك وصلت هنا وما عليك سوى الصمت.

لماذا يهجر الجميع العراق، المثقفون، المجرمون، السياسيون،الأكاديميون،العمال.. رجال الدين.... ربما البترول ليس كافيا ً وأسعاره عالية!!

واصف شنون