في عصر العولمة، حيث تندلع التجاذبات الثقافية الكبرى لتعميم قيم بعينها، يُطرح السؤال المرتبط بالهوية على مستوى اللغوي أيضا، وترتسم شارات الاستفهام حول المحاولات الحثيثة للتأصيل لـ quot;لغة موحََّدةquot; تشكل ظهيرا لسانيا لثقافة عولمية أحادية القرن.

لا ريب أن اللغة الإنجليزية هي المعنية مباشرة بهذا السؤال باعتبارها اللغة الأكثر تداولا في العالم المعاصر؛ وبدرجة أخرى، تعتبر الترجمة معنية أيضا باعتبارها الآلية التي ابتكرها الإنسان لإرساء التواصل بين اللغات والاحتفاء بتعدديتها؛ هذا ناهيك عن كون سؤال اللغة الموحّدة هو واحد من الأسئلة المحورية للهوية باعتبار اللغة حاملا عضويا للثقافات، ومرجلا تنصهر فيه، لتتخذ تشكيلات تعبيرية تحاكي خصوصية المنتوج الذهني لأمة بعينها، في الأدب والفكر والفن.

إن احتمال سيادة لغة بذاتها باعتبارها quot;لغة العالمquot; يرجع، بالضرورة، إلى سيادة الثقافة التي تجسدها تلك اللغة. وهنا لا يغدو التعدد الألسني الصرف وحده مهددا بقدرما يصبح التعدد الثقافي العالمي هو المعني، وتصبح الثقافة العالمية أمام خطر ذوبان مخزونها العميم من المنتوج الإنساني الإبداعي والفكري، في الماضي والحاضر والمستقبل.

صحيح أن تاريخ الإنسانية لم يشهد في مرحلة من المراحل هيمنة مطلقة للغة على باقي اللغات البشرية، بحيث يبدو من هذا المنطلق أن طرح السؤال أعلاه غير واقعي تماماً، إلا أن الواقع الإجرائي الذي يدعم الاستقراءات التي تفيد أن لغة التخاطب العالمي المقبلة هي اللغة الإنكليزية ويؤشر إلى تسيّد اللغة الإنجليزية على غيرها من لغات العالم في الوقت الراهن، لا يتجلى فقط في تفوق الإنتاج العلمي والتكنولوجي الأميركي، وإنما أيضا في سيرورة الثورة التكنولوجية المذهلة، والممدودة، في مجال الاتصال وتقنياته، والتي تضمن التواصل عبر حروف الشبكة الالكترونية الضوئية في العالم بأركانه، وبسرعة لحظية. هذه الإمكانات لم تكن متاحة من قبل للغات التي هيمنت في مراحل معينة من التاريخ البشري مثل اللغة اليونانية واللغة اللاتينية.

أمام مدّ اللسان الإنكليزي المحقًق هذا، يصبح من الأهمية بمكان العمل على حماية التعدد اللغوي العالمي، أولا، والتنوع الثقافي الإنساني، تاليا، من حيث هو مصدر إثراء للتجربة الإنسانية برمتها. وما الإعلان العالمي حول التنوع الثقافي الذي أطلقته منظمة اليونيسكو إلا خطوة في هذا الاتجاه حين وضع التنوع الثقافي والتنوع البيولوجي في الدرجة نفسها قياسا إلى الأمن الإنساني العام.

ومن هذا المنطلق تكون الترجمة هي الوسيلة الأنجع لتمكين التواصل بين الثقافات، وتعزيزالحوار بينها، وإثراءالثقافة الإنسانية الكبرى التي تنصهر في بوتقتها كل اللغات والثقافات. ويكون التلاقح بين عوالم الثقافات هو اللقاء الشرعي الذي سيثمر ثقافة إنسانية كونية مشتركة، تشكل هيكلا ثقافيا موحدا، لا على المستوى الألسني المنطوق وحسب، بل على صعيدي القيمة والفكرة أيضا.

مرح البقاعي