سقوط الفلوجة
كما ذكرنا فى الجزء التاسع، فان القوات البريطانية نزلت فى البصرة فى 29 نيسان /أبريل1941، وتحشدت قوات بريطانية أخرى على الحدود الغربية تؤازرها قوات من الجيش الأردني بقيادة الجنرال البريطاني (كلوب باشا) بعد أن وافق الأمير(أصبح ملكا فيما بعد) عبد الله بن الحسين على مساعدة البريطانيين على القضاء على الثورة. وكان الجيش البريطاني يضم أعدادا كبيرة من الهنود واليونانيين والآثوريين (قوات الليفى). وفى فجر يوم 2 مايس/مايو بدأت الطائرات البريطانية بدك مواقع القوات العراقية التى كانت تفتقر الى الأسلحة الحديثة، كما دمرت أكثرالطائرات العراقية وهى جاثمة فى المطارات، وبعد خمسة أيام من القتال المرير والخسائر الكبيرة التى منيت بها القوات العراقية فقد اضطرت الى الانسحاب والتراجع الى الفلوجة غربي بغداد. واتصل البريطانيون ببعض شيوخ العشائرفى الدليم (الأنبار) وسمحوا لهم بجمع أسلحة الجيش العراقي المتراجع على أن لا يتعرضوا للقوات البريطانية. ثم سقطت الفلوجة بعد ثلاثة عشريوما، وتراجعت القوات العراقية الى بغداد بدون نظام، واحتلت القوات البريطانية غربي بغداد ولم تعبر الى الجانب الشرقي. ويعتقد البعض ان سبب التوقف هو فسح المجال أمام المجرمين للقيام بأعمال النهب والسلب والقتل، فيعجل ذلك بسقوط الحكومة. وفعلا أدرك رشيد عالى الكيلاني وقادة الثورة مدنيين وعسكريين بأن الأمر قد خرج من أيديهم فغادروا، أو بالأحرى هربوا تاركين البلد تحت رحمة المجرمين والبريطانيين والتجأوا الى ايران، وفر معهم المفتى الفلسطيني الحاج أمين الحسيني الذى كان قد ساعد فى تأجيج المشاعر ضد الانكليز، ويقول عنه البعض بأنه سبب ضياع فلسطين بسبب انحيازه لألمانيا التى كان يظن أنها ستوحد العرب وتمنحهم الاستقلال الكامل. ألقى الانكليزالقبض على الضباط الأربعة وهم: محمود سلمان و كامل شبيب و فهمى سعيد وصلاح الدين الصباغ فى ايران بعد أن احتلوها مع الروس، وأعادوهم الى بغداد حيث حكم عليهم بالاعدام وعلقت جثثهم أمام وزارة الدفاع.

الفرهود
فى يوم 1/6/1941 عاد عبد الاله والعائلة المالكة ونورى السعيد الى بغداد مع القوات البريطانية بعد اندحار الجيش العراقي، وخرج بعض اليهود لاستقبالهم ولكن بعض الجنود والمدنيين هاجموهم عند جسر الخر فقتلوا واحدا وجرحوا آخرين منهم. لم يسمح السفير البريطاني بدخول الجيش البريطاني الى الجانب الشرقي من بغداد فقام ثلة من صغار ضباط الجيش العراقي والشرطة والرعاع والمجرمين بمهاجمة محلات اليهود وبيوتهم فى البداية، ثم شملت أعمالهم المشينة كافة العراقيين من كل الفئات والطوائف، واحتمى بعض اليهود فى بيوت المسلمين الذين آووهم ووفروا لهم الحماية. فى تلك الفترة كنا نسكن دارا قرب محلة (الدهانة) من الشورجة وكنت طفلا فى السنة الثانية ابتدائي وكنت أشاهد الناس يتراكضون هنا وهناك، منهم من يحمل الخناجر والقامات (سيوف عريضة) ويحملون (الغنائم) التى حصلوا عليها من المحلات فى شارع الرشيد والشورجة، وكانت مناظر مفزعة لا تنسى. وأطلق العراقيون على ذلك اليوم اسم (الفرهود). ويظهر أن أحفاد اولئك الغوغاء هم الذين قاموا بأعمال القتل والنهب والسلب والحرق والتخريب بعد دخول القوات الأمريكية الى بغداد فى نيسان 2004. ولا يخامرنى اي شك بأن معظم هؤلاء المجرمين هم ممن أطلقهم صدام من السجون قبيل سقوطه ليقوموا بنفس الدور الذى قام به آباؤهم، ثم انضموا فيما بعد الى الميليشيات بكل أنواعها سنية وشيعية وأرعبوا الناس وما زالوا يفعلون. وتقول بعض المصادر ان ضحايا الفرهود كانوا أكثر من 400 قتيل و 2400 جريح.

الشعب الساخط
بعد فشل حركة الكيلاني توارى الضباط عن المسرح السياسي، ولكنهم استمروا بعملون بالخفاء، وازداد سخط الشعب وخاصة بعد تسلم الفريق طه الهاشمي رئاسة الوزارة وتسريح الكثير من ضباطه ومراتبه، وازدياد البطالة وركود الأسواق. وسرعان ما سقطت وزارة الهاشمي وشكل نورى السعيد وزارة جديدة، وبذل جهودا كبيرة فى مطاردة العناصر التى أيدت الحركة. وألقي القبض على المشتبه بهم وحجزوا فى المعتقلات، ومن بينهم: عبد الرحمن البزاز وعبد الرزاق الحسني وجمال الألوسي وفائق السامرائي وروفائيل بطي. وقرب نورى السعيد ( صالح جبر) استجابة لرغبة الوصي عبد الاله مكافأة له على مساعدته فى الهرب من الديوانية الى البصرة ثم الى خارج العراق.

تعددت الاضرابات والمظاهرات، فقامت الحكومة بمشاريع عديدة لامتصاص البطالة، وقام الجيش البريطاني فى العراق بشراء كل ما يمكن شراؤه من الاسواق المحلية، فانتعشت الأسواق بعض الشيء، وخف السخط، وان كانت كراهية الناس للانكليز ومواليهم من العائلة المالكة والوزراء قد تأصلت فى نفوسهم.

ولا بد ان اشير هنا الى ان الاحزاب السياسية كانت على الأغلب تتصارع من أجل السلطة فقط وان كانت تعد بالاصلاحات، مما الحق أبلغ الضرر بالعراق على المدى البعيد. فالشعب العراقي شعب عاطفي سريع التقلب ويغره معسول الكلام ويندفع بتهور وراء من يكيل له المواعيد الكاذبة. أما الحكومات فى ذلك العهد، سواء كانت عميلة أم وطنية مخلصة، لم يكن باستطاعتها أن تعمل أكثر مما عملت، فان القواعد العسكرية البريطانية فى الشعيبة والحبانية كان باستطاعتها فرض سيطرتها كاملة على البلد بكل سهولة. كما وان ايرادات النفط لم تكن كافية لأقامة مشاريع أكثر مما قامت به تلك الحكومات فعلا بسبب قلة الانتاج وتدنى الأسعار حيث ان كل ذلك كانت تتحكم به شركات النفط الأجنبية بحماية بريطانيا.


الخبز الأسود
استلم أرشد العمري منصب رئاسة الوزراء فى 4/6/1946 وبقي فى ذلك المنصب لمدة ستة أشهر فقط، وبسبب سياسته الحمقاء فقد شحت المواد الغذائية وعلى رأسها الحنطة والطحين وخلف عبئا ثقيلا للحكومة التى تلت حكومته، والتى سعت الى الاتصال بمجلس الطعام الدولي للحصول على 30 ألف طن من الحنطة بشكل عاجل لمعالجة أزمة الخبز. و من عايش تلك الفترة يتذكر حتما الخبز الأسود الذى نزل الى الأسواق بسبب رداءة الطحين الذى وزعته الحكومة على المخابز، فقد كان يحتوى على نسبة عالية من نوى التمر المطحون وشوائب كثيرة أخرى، وأتذكر كبير المذيعين فى الاذاعة العراقية آنذاك محمد على كريم كان يصف الخبز الأسود على أنه صحي ومغذ ولذيذ!!

عاطف العزي

فى الجزء التالى: معاهدة بورتسموث

الجزء التاسع