لم أشأ أن أكتبَ رحيل درويش إلاّ إثر لفّته أرضٌ ـ في رحمها المتنازعِ على لحمه منذ شُقّ البحر وارتفعت النبوءة. أرضٌ أجاز مستوطنوها quot;الجددquot; الدم المسفوح من الجليل إلى المبكى، وقايض quot;قدامهمquot; المسيحَ بحفنة من ذهب.
حين عبر جسده الشاسع الأجواء الأميركية باتجاه الميعاد الأخير عبقت في رأسي غيمة، واشتدّ عليّ المطر. هو شجر الكلام ينسحب مسجّى في صندوق، يقطع فواصل الجغرافيا باتجاه quot;عيون ريتاquot; حيث يرتاح! وهل كان لشاعر أن يستقرّ إلا في رماد الحكاية الأولى وحَبَق المَسرّات؟
قريبا من الأرض، وعاليا في الشعر عاش، وها هو اليوم يقطع المسافة من خيط الحزن الرفيع إلى إسمنت الحائط المرفوع بين الفلسطيني وظلّه، ويسجّل في quot;مديحه العاليquot; أن الأسطورة هي أصدق خواتيم الراوي والرواية.
إلى انسحاب درويش المدويّ من موتنا البطيء العاثر قصيدةً قد تليق بذهاب الشعراء:

لا تمطرِ الآنَ أيها السَفَرُ المضرّج بالكآبة
سقطَ منكباكَ في انكسارِ المرايا، ولم تهادِنِ الروحُ العريضة
راحلٌ أنتَ في اندلاعِ الهجيرة.. قاتمٌ أنتَ في انحناءِ البلادْ

البلادُ.. البلادُ.. البلادْ
لا أرصفةُ المدينةِ تمشطُ ضفتَكَ العالية
ولا واجهاتُ التجارة تستقبلُ جرحَكَ العاري
رحلَ المضيءُ في تواترِ المسافة
وانكمشَ الطريقُ من انقلابِ المواسمْ

عراةٌ نحنُ من رشرشاتِ الطفولة
شائعونَ نحن في موتنا اليوميّ
هكذا نشبُّ على الحريقِ الجائحِ حتى النسغْ،
نرمَدُ على شفير السفرْ،
ينهشنا ضبابُ المدنِ الناتئة من جبهتِنا العريضة

البلادُ.. البلادُ.. البلادْ
لم نغادرْكِ سكارى
لكنَّها الريحُ راودتِ الخامدَ منَّا فأربكتْ سريرَ أمِّنا اليابسْ!

لم نُروِّك أيتها الأمُّ من الأخضرِ العابثْ
فحلمُنا تقهقرْ، الشرفةُ زاغتْ، ووترُ القلبِ انقطعْ
لم نختزلْكِ من احتمالِ الموجِ
فنحنُ غرقى.. ولا قشة
لم نرفعْكِ إلى نعشكِ العالي
لأنَ الغائمَ فينا عاقرٌ.. عاقرٌ.. عاقرْ

البلادُ.. البلادْ
يا حجمَ الحقيبةِ من قلبي الأرملْ
يا رجفة الأصابعِ على زناد الطلقة الأخيرة
البلادُ.. البلادْ
يا سِفْراً لن ترتلْهُ حنجرتي الجاحدة
يا قبراً لن يرثَهُ رفاتيَ العاشقْ

مرح البقاعي