1
في هَدْء من ليلة الأمس، حينما كانت وسائلُ الإعلام تترجّع ما أصدى من خبر رحيل محمود درويش ؛ في تلك الساعة الطويلة، المُمضّة، جازَ لي إستعادة شريطٍ مديدٍ من ذكريات الصِبا وشِقوَته. إكتشافي شاعرَ فلسطين، في السنّ الحدَثة تلك، وإن كان مضاهاة لشواغل الأدب لديّ، بيْدَ أنه ما كان ليتحققَ لولا إنغماسي، مُبكراً، في أعطاف السياسة ومألوفاتها. في علّة السياق هذه، حقّ للمَخطر الرفاقيّ، الذي تنسّبتُ إليه وقتئذٍ، أن يُجرّد درويشاً من صفة quot; شاعر الأرض المحتلة quot;، مُحيلاً إياها إلى تعريفٍ آخر، من قبيل quot; الإنهزاميّ quot; و quot; المُرتدّ quot; ؛ وهيَ الإحالة، الإعتباطية، المنذورة لخيارَيْن في مسلك شاعرنا : تركه صفوفَ الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ، ومن ثمّ مغادرته أراضي 48 إلى المنفى المصريّ وبعد ذلك إلى لبنان. وعلى الرغم من حقيقة، أنّ معارفي الأدبية كانت في طريق التشكّل بعد، إلى أنّ الذائقة ما كان لها إلا أن تشافِه التميّز الألق، البيّن، لموهبة محمود درويش وإفتراقها عن نديْها، من المُشكلين معه ثلاثي الشعراء الفلسطينيين، quot; المُقاومين quot; ؛ وأعني بهما توفيق زيّاد وسميح القاسم، الذيْن أعطيَ لإسميهما منشوراً بأمان التمجيد، أحمرَ، بما أنهما واصلا التمترس بالخانة الإيديولوجية، وكذا التمسّكَ بالإقامة في الأرضَ المحتلة.

2
مجموعة درويش quot; حبيبتي تنهض من نومها quot;، المُعترضة طريق الفتى، المُراهق، الذي كنته، أصابتني للوهلة الأولى بنوع من خيبة الأمل والإحباط. ولكنّ هذه المجموعة الشعرية، المُدهشة، حقّ لها أن تلجَ بمعارفي إلى أسلوبٍ فنيّ، أكثرَ جدّة، كان غيرَ مألوفٍ من قبل في تجربة شاعرنا، على الأقل. وأجزمُ أنه بدءً من قراءتي، المُتأنيَة، للمجموعة الدرويشيّة تلك، فإنني تدرّجتُ في مطالعاتي، مرتبة ً مرتبة، خلل مفازة الشعر الحديث، الذي كان ما فتأ آنذاك على مرمى شتى التهم، من لدن محافظي الأدب العربيّ، العتيدين ؛ هؤلاء الذين سبق لهم أن زندقوا وكفروا تجارب شعراء الحداثة، من أمثال قباني والسيّاب، واصمين إياها بـ quot; التغريب quot; و quot; اللا شعرية quot;. حتى أنّ مبدعاً ـ كمحمد الماغوط، هجَرَ كتابة القصيدة في مرحلة مبكرة من مسيرته الأدبية، منكفئاً بها ربما أمامَ تلك الشبهة، الموصوفة. المُفارقة هنا، أنّ محمود درويش، نفسه، تناسى الفارط من أمره مع أولئك المحافظين، فراحَ مع تصاعد نجم إسمه، محلياً ودولياً، إلى إتباع مسلكهم ذاته؛ هوَ الذي دأبَ على محض شعر النثر عداوةً شديدة، صريحة، مُدعياً بدوره أنه يمتّ إلى التغريب واللا شعرية!

3
كنتُ قد شددت آنفا، على أنّ نجوميّة درويش، الحالقة، مقرونة بإصطفافه مع أصحاب النهج التقليديّ، في عدائه للقصيدة النثرية. إنه طبعٌ عام، نوعاً، أزعمُ أنه متأثلٌ بكلّ أديبٍ، أو فنان، وجدَ إسمه، على حين فجأة، وقد أضحى ذائعاً على كلّ شفةٍ في شارع الجماهير، العريض ( لنتذكر ـ كمثال، ما كان من أمر الموسيقار فاغنر، الذي وقف مع المحافظين ضد الأساليب التجديدية لمواطنه، الشاعر الفيلسوف نيتشه ). إذ وبمجرّد أن يعتاد هذا الجمهور الشعريّ ـ أو سمّه ما شئتَ ـ على نبرة معيّنة لنجمه المحبوب، الأثير، حتى يُصبح سلطة ً مُتطلّبة، غاشمة، لا ترتضي عن ذائقتها بديلاً أبداً. وبالتالي، فإنّ نجمنا يكون عليه الإكتراث كثيراً بتلك الذائقة الجماهيرية، العشوائية، ومن ثمّ رفدها بما تستهويه من نصوص، منظومة، متوافقة مع هواها ومزاجها، كيلا يفقدَ حظوته لديها. الأدهى، أنّ صفة quot; شاعر المقاومة quot;، المتواشجة مع مقام محمود درويش، قد ضافرَتْ من ثقته بوحدانيّة أسلوبه، الفنيّ، وأنه الطريق القويم لكلّ ساع لفردوس الأدب. لا غروَ، إذاً، أن يُسهمَ الشاعرُ الراحل، بوعي منه أو بدونه، في تخريب ذائقة جمهور هائل من مُحبّي القصيدة بين المحيط والخليج، بإصراره على أنّ الشعر الغنائيّ، المنظوم، إنما هوَ الشعر الحقّ وكلّ ما عداه باطلٌ.

4
النجوميّة، ولاحقاً الصنميّة، ما كان لها أن تصلَ إلى بغيتها، المطلوبة، دونما عون من منظومةٍ، عتيّة، لديها إمكانياتٍ هائلة، إعلامية وسياسية وإقتصادية ( لنتذكرَ، هنا أيضاً، مثالاً آخر مع أدونيس والسلطة السورية، البعثية ! ). ومن، مثل منظمة التحرير الفلسطينية، كان قادراً على منح محمود درويش ما كان يأمله من سندٍ خلال مسيرته الطويلة، في الطريق إلى سدّة المجد. ما جناه شاعرنا من مكاسب كبيرة، لا تحدّ ولا تعدّ، من صلته الشخصية بالزعيم الراحل، ياسر عرفات، إنما كانت متوافقة ـ على رأي ٍ شخصيّ دوماً ـ مع ما يمكن لنا وسمه بـ quot; الجناية quot; على قضية شعبه، التي لطاما تغنى بها شعراً ونثرأً، حتى أنها تماهت حقاً وإسمه. فالإصطفاف مع السلطة، كما هوَ معروف، له ثمنٌ، فادحٌ، لا بدّ أن يُجزى موقفاً ورؤية. إنّ خضوع درويش للسلطة العرفاتية، في المنفى والوطن سواءً بسواء، كان من مقتضاه التغاضي عن المواقف الخاطئة ـ كيلا نستخدم مفردة اخرى ـ لتلك السلطة، أضرّت للغاية بمصالح الفلسطينيين ؛ مثلما كان أمر التخندق في جبهة المقبور صدام حسين، أثناء غزو الكويت عام 1990 : ولا عجبَ، والحالة هكذا، أن يكون الشاعرُ ضيفَ شرفٍ، دائم، على مهرجان quot; المربد quot;، الرسميّ، وأن يجرّ معه إليه عدداً من القامات الشعرية الاخرى، العربية!

لم يكن بالغريب، إذاً، أن يتقرب درويش للسلطات الحاكمة، العربية، وأن تختفي من مجوعة أعماله الكاملة، في كلّ مرة، هذه القصيدة أو ذلك المقطع، كيلا يزعج خاطرها : وكأمثلة، المقطع الذي يؤكد على شيوعية قريته، في قصيدته الشهيرة quot; سجّل أنا عربي quot;، أو في قصائده المتضامن فيها مع القضية الكردية في العراق. ناهيك عن أنّ الفساد الهائل، المُستشري في أوصال منظمة التحرير، ولاحقاً في السلطة الوطنية، كان له أن يزجّ بإسم محمود درويش، ما دام قد إرتضى لنفسه أن يكون قيادياً في اللجنة التنفيذية لسنوات عديدة.

إنّ قضية الفنان ناجي العلي، هيَ ولا شك، الناصيَة النكراء في سيرة شاعرنا الكبير، الراحل. وكان ناجي، قبيل إستشهاده إغتيالاً، قد صرّح للصحافة بشكل غير موارب، بأنّ محمود درويش قد تهدده، شخصياً، على إثر سلسلة من رسومات الكاريكاتور، التي خصصها لإدانة الفساد واهله في منظمة التحرير. وحتى في أواخر حياته، لما كان المرض العضال ينهش في قلبه، فإنّ درويشاً لم يتوانَ عن تهديد شاعر آخر ؛ هوَ الزميل باسم النبريص، بسبب مقالاته المنددة بالفساد في جسد الثقافة الفلسطينية. من الممكن أن يكون مُحقاً، ذلك المنوّه بفصل سيرة الشاعر عن نصوصه الإبداعية. إلا أنّ ذلك يجب أن يكون ممكناً حسب، بفصل شاعر ـ كمحمود درويش، عن قضيةٍ كبرى ـ كالقضية الفلسطينية، التي أعتبرَ هوَ دوماً، وأبداً ربما، صوتها الداوي، الصارخ، في ضمير العالم أجمع.

دلور ميقري

[email protected]