الإنسان جبل على حب الإستطلاع إلا أن للعادة والدأب الدور الكبير في بعده وتجنبه لكثير من الأسئلة التي تواجهه والتي يفترض أن يجد لها الإجابة الوافية، لذلك فإن الطفل منذ أيامه الأولى التي يميز بها الأشياء ويضع لها لغته الخاصة تبدأ لديه تساؤلات كثيرة فقد يسأل أقرب الناس إليه عن كل ما يواجهه ولذلك قيل أن العامل المشترك بين العالم والطفل هو حب الإستطلاع لا سيما في الأمور الناتجة جراء الأحداث الكونية التي يتجاهلها عامة الناس.
وبسبب هذه الغفلة التي إرتضاها العامة من الناس أرسل الله تعالى الأنبياء وفرض السؤال على الإنسان في جميع متطلبات حياته سواء في أمور الدين أو الدنيا كما قال عز من قائل : (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) النحل 43.
وقريب من هذا اللفظ ما ذكر في الآية السابعة من سورة الأنبياء، وعلى كل حال فإن الآية التي هي حديثنا في هذا المقال فيها عدة مباحث أعرض لها على النحو التالي :
المبحث الأول : معنى السؤال : السؤال يعني الإضافة، أي أن السائل يريد أن يضيف إلى نفسه ما يظن أنه مفقوداً لديه سواء كان السؤال مادياً أو معنوياً، كما ورد ذلك في نبأ الخصم الذين تسوروا المحراب على داود، وعرض عليه أحدهم شكواه كما قال تعالى : (إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب) ص 23.
فأجابه داود بتحكيم العاطفة تقديراً للشكوى التي هيجت لديه الرحمة بقوله كما نقل ذلك القرآن الكريم : (قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه.......... الآية) ص 24. واللام للقسم أي أقسم أنه ظلمك بإضافة نعجتك إلى نعاجه.
وأقرب بياناً من هذا قوله تعالى : (وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواءً للسائلين) فصلت 10. وهذا يعني أن ما قدر في الأرض من أقوات وأرزاق في تتمة أربعة أيام سواءً للسائلين أي الذين يقتاتون من تلك الأرزاق بحيث تكون كافية لهم لأجل أن يضيف السائل ما يحتاجه في كل وقت يشعر فيه بالنقص لتلك الأقوات التي قدرها الله تعالى، والسائلون هنا تشمل جنس الإنسان والحيوان والنبات لأن الجميع بحاجة للرزق الذي قدره الله تعالى في الأرض كما في قوله : (وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار) إبراهيم 34. وكذلك قوله تعالى : (يسئله من في السموات والأرض كل يوم هو في شأن) الرحمن 29. ومنه قوله تعالى : (وأما السائل فلا تنهر) الضحى 10.
المبحث الثاني : ذكر المفسرون وجوهاً لقوله [أهل الذكر] فقيل أنهم أهل الكتاب أي أصحاب التوراة والإنجيل لأنهم يعلمون أن الأنبياء جميعهم من الرجال والخطاب على هذا التقدير يكون موجهاً إلى المشركين ويكون الذكر المقصود هو التوراة لقوله تعالى : (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) الأنبياء 105.
وقيل : أهل الذكر هم أصحاب العلم الذي يختص بأخبار الأمم الماضية لأن العالم بالشيء يكون ذاكراً له.
وقيل : أن أهل الذكر هم أصحاب القرآن وخاصته ويشهد لهذا قوله تعالى : (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) النحل 44.
ولو تأملنا الآراء التي مرت يظهر لنا أن الآية تنطبق على الفريقين أهل الكتاب وأهل القرآن وعلى هذا التقدير يكون المعنى [فاسألوا أهل الذكر] أي أهل الكتاب الذين يعلمون أخبار الرسل هل أنهم كانوا رجالاً أم ملائكة أم من جنس آخر، ويكون قوله [إن كنتم لا تعلمون] فيه نوع من التعريض أما أنت يا محمد فقد [أنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم] أي الذين إختلفوا في الكتاب أو المشركين الذين ينكرون الرسالات السابقة، فالذكر الذي أنزل إليك هو القول الفصل في هذا الخلاف.
المبحث الثالث : إذا أخرجنا الآية من سياقها وسبب نزولها فإنها تجري من باب التطبيق وليس التفسير بجميع أهل العلم وخاصته وكل من يمتلك المعرفة ولو بوجه، فهؤلاء جميعهم قد تنطبق عليهم الآية، إلا أن الذي يقع عليه إختيار السائل يجب أن يكون عالماً بالمجال الذي يختص فيه فلا يمكن توجيه أحد أسئلة الرياضيات لأستاذ اللغة العربية، وكذلك على السائل أن لا يكون سؤاله لأجل الإستهزاء والسخرية والجدال، لأن الشارع لا يسمح لصاحب العلم بالإجابة في هذه الحالة إذا ظن أن السؤال لا جدوى منه.
فعلى السائل والمجيب تقدير الحالة المناسبة لأن السؤال يأخذ عدة إعتبارات منها ما هو للإعتراض ومنها ماهو للإنكار ومنها ماهو للإستفهام وهذا [أي سؤال الإستفهام] يلزم صاحب العلم بالإجابة عليه لأن إزالة الشك واجب لا بد منه، فلا يحق للعالم أن يهمل الأسئلة التي توجه إليه وبنفس الوقت فإن الشارع يلزم السائل ببعض الشروط التي أهمها أن يكون السؤال ناتجاً عن رغبة حقيقية تؤدي إلى فائدة السائل أو الجمع المحيط به، أما إذا كان السؤال لغرض اللعب والإستهزاء فإن الشرع لا يسمح للسائل وإذا تجاوز الشرع على علم من المسؤول وجب على الثاني الإمتناع من الإجابة، لأن الإجابة نوع من أنواع البر الذي يجب أن يكون في موقعه.
وهناك نوع من الناس الذين لا يهمهم الشرع أو العرف كما هو الحال في كثير من البرامج أو المجالس الدينية أو الإجتماعية نراهم لا هم لهم سوى توجيه الأسئلة التي لا فائدة ترجى منها وبعضهم يعتقد أن الجواب الذي سبق وأن علمه عن طريق آخر لا بد أن يكون مطابقاً لرأي المجيب الذي وجه إليه السؤال متناسياً أن للعلم أبواباً لا تعد ولا تحصى علماً أن بعض الأسئلة إذا لم تكن نابعة عن إلتزام بالمسؤولية التي تفرض على صاحبها المعرفة الواجبة فهنا لا بد أن تكون الإجابة وبالاً على المتلقي كما قال تعالى : (لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) المائدة 101.
عبدالله بدر إسكندر المالكي
[email protected]
التعليقات