أخفقت قيادة ثورة أيلول التحررية بقيادة زعيمها الخالد الملا مصطفى البارزاني من التوصل الى إتفاق لحل القضية الكردية مع الأنظمة العراقية المتعاقبة وأخرها نظام البعث السابق، بسبب مشكلة كركوك.. فقائد الثورة لم يكن مستعدا للتنازل عن الحق التاريخي للشعب الكردي في كركوك وظل متمسكا بحقوق شعبه في هذه المحافظة حتى آخر لحظة في حياته كزعيم للشعب الكردي..


وهناك من يعتقد أن ثورة أيلول التي كانت معقد آمال الشعب الكردي، والتي كانت من أهم وأعظم ثوراتها المعاصرة قد ذهبت ضحية لقضية كركوك التي كانت العقبة الكأداء أمام أي إتفاق مرض للشعب الكردي لحل القضية الكردية في العراق، رغم أنني أرى العكس في ذلك تماما، لأن نوايا حزب البعث الحاكم تجاه القضية الكردية عموما، وتجاه زعامة الثورة على وجه الخصوص لم تكن سليمة منذ البداية، بدليل قيام نظام البعث بعدة محاولات لإغتيال زعيم الثورة وقياداتها أثناء فترة الهدنة التي أعقبت توقيع إتفاقية السلام بين قيادة الثورة الكردية والحكومة العراقية في عام 1970، ففي تلك الفترة بالذات بدأ النظام الحاكم بعملية ممنهجة ومبرمجة لعسكرة الدولة وترسيخ سيطرة الحزب المطلقة على مؤسسات الحكم،وفي مقدمتها المؤسسة العسكرية،فالنظام الذي يسعى الى ترسيخ أسس الدكتاتورية العسكرية والحزبية،ويعمل في الوقت ذاته على تثبيت مفهوم الحزب القائد في إدارة شؤون الدولة، لا يؤمن بطبيعة الحال بالحلول الديمقراطية لقضايا الشعوب الداخلية، خصوصا وأن الثورة الكردية كانت من أهم شعاراتها في تلك الفترة هو الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان.ولعل إعلان قانون الحكم الذاتي من طرف واحد في عام 1974 قد كشف حقيقة نوايا نظام البعث تجاه القضية الكردية، وتغليبه الحلول الناقصة لقضية وطنية مشروعة أشغلت جميع الحكومات العراقية مثل القضية الكردية.

وفي المفاوضات الإحادية الجانب التي خاضها الإتحاد الوطني الكردستاني بين عامي 1983-1984 واجهت تلك المفاوضات نفس العقبة الأساسية التي تعترض سبل الحل وهي قضية كركوك، ففشلت تلك الجولة من المفاوضات أيضا، تلاه فشل آخر للتفاوض بين الجبهة الكردستانية وبين السلطة البعثية إثر هزيمة الجيش العراقي في معركة تحرير الكويت عام 1991عندما رفض الطرفان التنازل عن كركوك للآخر..
وهناك الكثير من السياسيين والمحللين الذين يرون، أن قضية كركوك هي السبب في كل مرة بفشل الحلول المطروحة للقضية الكردية في العراق، وفي الوسط الشعبي يطلقون عليها إسم ( سرة خور ) كناية عن المولود الذي يولد بموت أبيه..


وفي خضم الثورات الكردية التي تتالت في جبال كردستان منذ عقود طويلة تحولت قضية كركوك الى شعار أساسي لدى جميع الأحزاب الكردستانية يستجلب المؤيدين لها، لكنها أصبحت منذ سقوط النظام السابق،ورقة إنتخابية رابحة ومضمونة تستغلها الأحزاب الكردستانية في معاركها الإنتخابية في العراق الديمقراطي الجديد تستجلب أصوات المنتخبين في شتى أرجاء كردستان، بإعتبار كركوك قد أصبحت رمزا لقضية الشعب الكردي، ولذلك فقد إعتبرها هذا الحزب ( قدسا) وذاك الحزب ( قلبا ) لكردستان..

كانت كركوك بمواردها النفطية الهائلة التي يعتاش العراق منها لعقود طويلة من الزمن، تستحق كل التضحيات الكردية من أجلها، سواء بسبب إنتمائها القومي والجغرافي التاريخي والذي لا نشك فيه مطلقا، أو بسبب العامل الإقتصادي الذي أرجحه على العوامل الأخرى..
فأقليم كردستان لم تكن تملك الى ما قبل سنوات قليلة أية موارد مهمة، ولم تكتشف بعد تلك الكميات الهائلة من النفط تحت أراضيها، وهي آبار وحقول يعتقد أنها تشكل ثروة قومية كبيرة، فتصريحات بعض القادة الأكراد تتحدث عن وجود مليارات البراميل من الإحتياطي النفطي كامنة تحت أرض كردستان تسعى الحكومة الى إستثمارها، أضف إليها الثروات الهائلة للغاز الطبيعي، الذي يجري بناء مدينة كبيرة وشاسعة من أجلها في إقليم كردستان..


وهذه الثروات المكتشفة حديثا والتي تسعى حكومة الإقليم الى إستثمارها من خلال العقود النفطية التي توقعها مع الشركات العالمية، تعتبر الى حد ما بديلة عن ثروات كركوك، هذا إذا لم تفوقها من حيث حجمها، لذلك أعتقد أن إكتشاف هذه الثروات داخل أراضي كردستان وهي أراض غير متنازع عليها وتدخل في صميم المنطقة الكردية، يجب أن تعوض العامل الإقتصادي الذي طالما عولت عليه القيادة الكردية للمطالبة بإستعادة كركوك..


ويجب أن لا ننسى بأنه منذ أن أعلنت القيادة الكردية عن تمسكها بكركوك وبإصرار عائديتها الى إقليم كردستان، فإن الشكوك بنوايا تلك القيادة تقلق الكثير من الأطراف السياسية سواء في العراق، أو في دول الإقليم، وبفسرون العناد الكردي حول كركوك وعائديتها بأنه يعود بالأساس الى رغبة وسعي تلك القيادة للإنفصال عن العراق وتشكيل الدولة الكردية المزعومة،لأن كركوك بثرواتها النفطية ستضمن إستمرارية تلك الدولة عبر بناء إقتصاد قوي بالإعتماد على تلك الثروات،فلا تخفي الأوساط المحلية والإقليمية مخاوفها بهذا الشأن، وترى أنه بمجرد عودة كركوك الى إقليم كردستان، فإن القيادة الكردية لن تتردد من إعلان دولتها المستقلة؟!. وقد تكون هذه الشكوك أحد أهم الأسباب في رفض التنازل عن كركوك من قبل القيادات العراقية لأنها بالنتيجة ستؤدي الى إنفصال كردستان عن الجسد العراقي تمهيدا لتقسيم العراق الى دويلات صغيرة كما تروج بعض الأوساط القومية العروبية.

لقد كان الإقليم طوال فترة السنوات الـ17 الماضية من تحرره من قبضة نظام صدام حسين يعتمد بالأساس على موارد كمركية شحيحة لتدبير رواتب موظفي الدولة وإدارة إقتصاد هش وضعيف بالإقليم في ظل حصارين إقتصاديين، محلي مفروض من قبل النظام، وآخر خارجي مفروض بموجب قرارات مجلس الأمن الدولي جراء غزو العراق للكويت، ومع ذلك فقد كانت أحوال الناس على رغم القساوة البالغة التي واجهتهم في السنوات الأولى من فرض حصار الحكومة العراقية تسير بشكل عادي، لكنها تحسنت الى درجة كبيرة بعد توقيع مذكرة التفاهم بين العراق والأمم المتحدة والمعروفة ببرنامج ( النفط مقابل الغذاء )، وهو برنامج أدى تنفيذه منذ منتصف التسعينات من القرن الماضي في كردستان الى تحسن معيشي لافت للسكان من خلال تخصيص موارد شحيحة من عوائد تلك المذكرة لإقليم كردستان والتي لم تكن تتجاوز في كثير من الأحيان أكثر من 9% رغم أن المذكرة كانت تنص على تخصيص 13% من نسبة تلك العوائد، ولكن النظام السابق كان يتلاعب بإستمرار بتلك الحصة، فلم يلتزم أبدا بالحصة المقررة لكردستان، ومع ذلك فقد شهدت كردستان إنتعاشا إقتصاديا الى حد ما، وإرتفاعا في وتائر مشاريع التنموية وشهدت عمليات إعادة الإعمار بشكل واسع النظاق، وإحياء البنية التحتية لإقليم كردستان تحت إشراف مباشر من قبل الأمم المتحدة..

وبعد إجراء الإنتخابات في العراق وسن الدستور العراقي ضمن الإقليم لنفسه نسبة 17% من عوائد العراق، وهي نسبة ساعدت على إستكمال خطة إنفجارية في مشروعات إعادة الأعمار والتنمية في كردستان..وإستغلت حكومة الإقليم الوضع السياسي المريح في بغداد للمضي قدما في فك إرتباط الإقتصاد الكردستاني بالإقتصاد العراقي، وسعت من خلال توقيع العديد من العقود النفطية مع الشركات العالمية نحو البحث والتنقيب عن الثروات الكامنة تحت أراضيها، خصوصا بعد إكتشاف آبار النفط في منطقة ( شيواشوك) القريبة من مدينة كويسنجق منتصف التسعينات،فمن خلال عمليات التنقيب التي بدأت بعد سقوط النظام السابق، تأكد وجود آبار وحقول أخرى نفطية وغازية كبيرة في المنطقة يمكن إستثمارها لبناء إقتصاد قوي ومتين في الإقليم.. وهكذا مضت حكومة الإقليم قدما في التعاقد مع عدد آخر من الشركات العالمية لجذب إستثماراتها في القطاع النفطي.


وبحسب الأرقام والتقارير الحكومية وغير الحكومية التي تشير الى وجود كميات هائلة من النفط والغاز داخل أراضي كردستان، فإن حقول كردستان بإمكانها أن تنافس حقول كركوك في غناها بهذه الثروة، لا سيما وكما أسلفت فإن تصريحات بعض مسؤولي الإقليم في وزارة الموارد الطبيعية ( النفط ) تبشر بوجود كميات إحتياطية هائلة من النفط والغاز في الإقليم، مما سيعوض الإقليم عن ثروات كركوك في حال أرادت القيادة الكردية فعلا أن تستقل بدولتها المزعومة.

في ظل تلك الإكتشافات المثيرة للثروة النفطية الجديدة في كردستان، أعتقد أن القيادة الكردية ينبغي أن تخفف من غلوائها تجاه مطالبها في كركوك، وأن تتخلى عن عنادها تجاه هذا الصراع المزمن مع الحكومات العراقية وكذلك مع القوميات الأخرى حول مصير كركوك لسببين، الأول هو إدراك هذه القيادة بصعوبة إنتزاع كركوك في ظل كل هذه التدخلات الخارجية والمواقف العدائية من قبل القوى السياسية العراقية التي لم تشفع معها حتى الإتفاقات الإستراتيجية ومذكرات التفاهم العديدة التي وقعتها مع القيادات الكردية،والسبب الثاني، هو إكتشاف تلك الثروة البديلة داخل أراضي إقليم كردستان، وعدم حاجتها الملحة للثروة النفطية في كركوك كما كانت تحتاجها قبل إكتشاف ثروات كردستان.. وأعتقد أنه آن الأوان للقيادة الكردية أن تتخلى عن سياساتها المتشددة تجاه مسألة كركوك وتخفف من نبرتها الصاعدة مع الأطراف المعنية بها، وتعطي مجالا للحلول المنطقية والواقعية لهذه المعضلة الكبيرة، وتقدم التنازلات المطلوبة لتحقيق حلول توافقية لمشكلة كركوك، وتكف عن ممارسة أية ضغوط إضافية، خصوصا وأن كل تلك الضغوط التي مارستها القيادة الكردية طوال السنوات السابقة لفرض حلولها لقضية كركوك لم تثمر عن أية نتيجة مرضية، سواء تلك التي كانت تمارسها أثناء المفاوضات مع الحكومات العراقية، أو تلك التي مارستها بعد سقوط النظام السابق على الأطراف المعنية بقضية كركوك، ولعل الإشارة تكفي للمادة 58 من قانون إدارة الدولة العراقية وثم المادة 140 الدستورية واللتين بقيتا من دون تنفيذ على رغم الضغوط الهائلة من القيادة الكردية على الحكومة والأطراف الأخرى لتنفيذهما..
رغم أنني أتوقع أن ينبري الكثير من القومجيين الكرد بتخويني لإبدائي هذا الرأي، ولكن مع ذلك فأنا أعتقد أنه من غير المقبول أن تضحي القيادة الكردية مرة أخرى بكل هذه المكاسب الكبيرة التي حققتها القضية الكردية على الصعد المحلية والإقليمية والدولية في عراق ما بعد صدام حسين من أجل إنتزاع كركوك من العراق، فزمن الشعارات قد ولى، وأن ما كان يصح بالأمس، قد لا يصح اليوم، وليس كل ما يتمناه المرء يدركه..


فبحسب تصوري أنه بات من المستحيل إعادة كركوك الى إقليم كردستان بالطرق الدستورية خصوصا بعد ظهور كل تلك المواقف العدائية من قوى وكتل سياسية عراقية تجاه المكاسب التي حققها الكرد في العراق، ولعل تمرير قانون إنتخاب مجالس المحافظات يكفي لكي تستفيق القيادة الكردية على حقيقة مواقف الأطراف السياسية العراقية تجاه المطالب الكردية، ولذلك أعتقد بأن الإصرار الكردي على إستعادة كركوك الى إقليم كردستان أصبح مثل النفخ في قربة مقطوعة، فإنتزاع كركوك في ظل كل هذه التداخلات الإقليمية الدولية أصبح في الحقيقة حلما بعيد المنال، اللهم إلا عن طريق خوض حرب كردية عربية جديدة!. ولكن السؤال المهم الذي يفرض نفسه هو، هل أن القيادة الكردية مستعدة لدفع هذا الثمن الباهض من أجل قضية نعرف الجميع أنها خاسرة إذا ما حسمت بالحرب والدماء؟!. ولعل قضية فلسطين ماثلة أمامنا، وكيف أنها تحولت من تقسيم الدولة بين العرب واليهود في عام 1947 الى تشريد شعب بأكمله، ثم القبول بأشبار من الأرض المحاطة بجدار عازل وبسياج من الدبابات والمصفحات الإسرائيلية..


هذه هي النقطة التي ينبغي أن تقف حيالها القيادة الكردية وقفة تأملية قبل إتخاذ أي قرار مدمر للكيان الكردي القائم الآن،خصوصا وأن كردستان واقعة اليوم بين كماشة القوى العربية والتركمانية في الجنوب وبين مخالب الدولة العسكرتارية التركية في الشمال.

شيرزاد شيخاني

[email protected]