مشادةٌ كلامية بين ابن صاحب الفندق (أمين) وبين زبون لم يدفع فاتورة مشروبه في ملهى الفندق. تطورت إلى عنف لفظي فجسدي، ثم باستعمال السكين الذي حوّل الزبون إلى جثة هامدة على الأرض. نُقل (ساعد) إلى مستشفى القرية. تماثل للشفاء بعد عشرين يوما ورفع دعوى قضائية ضد (أمين) هذا الأخير هدده بالقتل، وهدّد كل من يقف إلى جانبه بالويْل. لأنه مسنود من طرف مسؤول كبير في الرئاسة. لم يكترث أحد لتهديدات الابن المدلل الذي استشاط غضبا فركب سيارته وطارد المشتكي وسحقه بعجلات السيارة. توفّي (ساعد) و شيّعه أهالي القرية، وبعد الجنازة توجهت جموع من الشباب الغاضبين إلى الفندق بغرض الثأر وتحقيق العدالة التي عجزت السلطات عن تحقيقها. قاموا بسحْل صاحب الفندق الذي أخفى ابنه عن الأنظار. انهالوا عليه ضربا حتى لفظ أنفاسه الأخيرة. وحرقوا الغرف بعد أن نهبوها. ردّ الحراس بإطلاق الرصاص الحيّ على الجموع المشحونة بالغضب. فقتلوا ثمانية منهم وجرحوا أكثر من ستّين. انتشر الخبر بسرعة في كل ركن في القرية فخرج الشباب المقهور ليحرق المباني الحكومية ويكسّر كل رموز السلطة مُطالبا بوضع حد لسياسة الاحتقار المُمارسة على الشعب.

هذه ليست رواية ولا مسرحية إنما حادثة مؤلمة بدأت في التاسع عشر من الشهر الماضي وانفجرت قبل يومين في قرية (سيدي عيسى) ولاية (المسيلة) الواقعة جنوب شرقي العاصمة الجزائرية. وهذه عيّنة من واقع جزائري مؤلم، رخصتْ فيه الحياة. واندثرت القيم الإنسانية. وأصبح العنف وسيلةً وحيدة للتخاطب وتحقيق العدالة. وهنا لا بدّ من طرح تساؤلات مُلحّة عن الأسباب التي أدت بالمجتمع الجزائري إلى أن يغرق في مستنقع العنف ويتخذه وسيلة وحيدة لإسماع صوته.

فأحداث بريان (جنوب شرق العاصمة) التي أدت إلى مقتل ثلاثة أشخاص وجرح العشرات وإلى حرق منازل وتشريد عائلات. بدأت شرارتها بتسلية بعض الشباب بمفرقعات المولد النبوي الشريف. وأحداث (الرغاية) في ضواحي العاصمة بدأت إثر تعثّر امرأة حامل وسقوطها أرضا نتيجة الطرقات المهترئة. أما أحداث حي (القبة) في العاصمة وأحداث (وهران) غربي العاصمة، فكان سببها المباشر مناصرةُ فرق رياضية. وجميع هذه الأحداث شهدت جرح واعتقال المئات وخسائر مادية قُدرت بالمليارات.

هذه الخسائر في الأرواح والممتلكات تُضاف إليها أرقام مخيفة أخرى عن حالات الانتحار التي بلغت مئة حالة منذ شهر يناير من هذا العام. فيما بلغ المفقودون من الجزائريين والجزائريات في السنوات الأخيرة نحو خمسة آلاف مفقود. يُعتقد أن أغلبهم تحول إلى وجبة دسمة لسمك المتوسط. بعد أن فشل في الوصول إلى الضفة الاخرى. هذه الإحصائيات لم تتناول أعداد المفقودين بسبب الإرهاب والاعتقالات السرية الذي بلغ آلافا ناهيك عن مقتل مئتين وخمسين ألف جزائري في أعمال العنف منذ عام واحد وتسعين. ولا يزالون يموتون يوميا.

آلة الموت هذه أصبحت تحصد آلاف الجزائريين في الطرقات كل عام. الأسبوع الماضي فقط، توفي ستة وعشرون شخصا في اصطدام حافلتين قرب مدينة (معسكر) غرب، فيما توفي العشرات منذ بدء فصل الحر، وهم يحاولون إطفاء حرارة أجسامهم في البرك والبحيرات وفي الشواطئ الممتدة على الساحل. كما يتوفى الآلاف من الجزائريين سنويا جراء غياب الرعاية الطبية والنقص الفادح في المستشفيات.

الموت، الموت، الموت... في كل مكان ولأتفه الأسباب. ألا يتوجب على الجزائريين سلطة وشعبا أن يعلنوا وقفة جادة للنظر في أسباب استهتارهم بقيمة الحياة التي وهبها الله للإنسان؟ ويقفوا على مكامن الداء قبل أن يأكلهم الأخضر واليابس؟ ليس هذا فحسب! فالموت يرافق الإنسان الجزائري في حله وترحاله: فتّشوا بربّكم في هويات القتلى في قندهار وبغداد وفي مخيم نهر البارد، فتّشوا عن هويات حملة الموت ومناصري دعاة القتل، في سجون لندن ومدريد وباريس وشيكاغو.. ألا تستحق هذه الظاهرة دراسة معمقة من علماء الاجتماع ووقفة تأمّلية من السلطات؟ أم أن العهدة الثالثة للرئيس أعمَتْنا سلطة وشعبا؟

سليمان بوصوفه