تحول الخطاب الرسمي العربي منذ أحداث 11 سبتمبر 2001 الى التماسٍ متواصل لتأكيد البراءة من الارهاب والاخلاص للولايات المتحدة. والمتابع لنماذج هذا الخطاب سيميز بسهولة نبرة الضعف المجاني. فالى جانب السياسات العربية غير المنتجة ولعشرات السنين تستوقفنا سيكولوجيا الأداء الرسمي العربي، وخصوصاً الأداء اللغوي الذي وصل الى درجة من البؤس بحيث رضي على نفسه أن يتعرض للظلم فلا يتظلم بل ويؤكد لظالمه أنه من المخلصين. يحلو للبعض إحالة هذا السلوك الى نوع من الماسوشية، رغم إن تشابك المصالح، السياسية والمادية والشخصية، يفسره بجلاء! سأتناول هنا كمثلٍ إمكانية لغوية ترفض الحكومات العربية استخدامها لأنها تمنح الموقف العربي قوة إزاء موقف الولايات المتحدة وإسرائيل:
إن أمريكا وإسرائيل هما القوتان الرئيسيتان في عصرنا اللتان تمارسان فعالية ولّى زمنها وتجاوزتها سيرورة التطور السياسي، وهي الاحتلال. وبذلك تعد هاتان القوتان رجعيتين بمقاييس عصرنا. فبعد التطور التأريخي للرأسمالية العالمية من عصر الامبريالية (الاحتلال المباشر) الى عصر الهيمنة الاقتصادية والسياسية على الدول بدا كما لو ان الولايات المتحدة في عهد المحافظين الجدد حاولت العودة الى الوراء عندما أخذت تستخدم العنف (فعلاً أو تهديداً) بين الحين والآخر لمعالجة أزماتها الاقتصادية. ولم يكن مستغربا أن تأتي النتائج عكس توقعات المخططين لهذا النهج حيث تكبد الاقتصاد الأمريكي جراء احتلال العراق مزيداً من الخسائر، فالنهج برمته رجعي وبالتالي غبي. ومع تهافت التبرير الذي تكرره أمريكا وإسرائيل للاحتلال بأنه محاربة الارهاب إلا إن الدول الحليفة للأمريكان، وعلى رأسها عدد من الدول العربية، انساقت وراء هذه النغمة وتبنتها في خطابها الرسمي، فعندما تعترض هذه الدول على ممارسات إسرائيل صارت تحرص على استخدام تعبير quot;إرهاب دولةquot; في وصف تلك المارسات كمقابل للأسطوانة الأمريكية المكرورة عن الارهاب الاسلامي. وبدلاً من شن حملة ضد الاحتلال الاسرائيلي ورفع كلمة الاحتلال في كل محفل دولي لاحراج إسرائيل تلجأ الحكومات العربية الى موقف الدفاع دائماً وتركز كل اهتمامها على تأكيد براءتها من quot;دعم الارهابquot;. لا يخلو خطاب لرئيس أمريكا أو مندوبها في مجلس الأمن من كلمة الارهاب كوسيلة لأرهاب الدول. الصحافة والاعلام والمسؤولون وكبار الموظفين جميعا يرددون هذه الكلمة حتى صارت يومية ومرادفة لكلمة مسلمين، وبمقدور المسؤولين العرب والاعلام العربي (بما فيه ـ وبوجه خاص ـ الموجه للغرب) أن يفعلوا المِثْل مع كلمة quot;الاحتلالquot; ليس فقط لأنها تفضح السبب الأصلي للعنف في فلسطين وتفسر كل الصراع في المنطقة وإنما لأنها في ثقافة عصرنا ـ وفي ثقافة أوروبا خاصة ـ صفة تفوق الارهاب عاراً لأنها تعود الى زمن ولّى، فأن تصف دولة بأنها محتلة هو مثل أن تصفها بممارسة القنانة مثلاً، والعار الذي يتضمنه فعل الاحتلال هو الذي يفسر بحث الأمريكان (في ما يخص العراق) وإسرائيل (في ما يخص الأراضي المحتلة) عن مسميات له وتبريرات لا تنتهي. لقد بلغ تقصير العرب في هذا الخصوص حد أن اطمأن الاسرائيليون أنفسهم الى أن العرب لن يحرجوها في المجتمع الدولي بتكرار هذه الكلمة القاطعة قانونياً فصاروا يبررون الاحتلال بالارهاب الفلسطيني: فأثناء زيارة المرشح الأمريكي باراك أوباما الى بلدة سديروت أشارت وزيرة الخارجية الاسرائيلية الى آثار القصف الفلسطيني قائلة بكل صراحة أن هذا ما سيحدث لو أن إسرائيل تنسحب من الأراضي الفلسطينية! هذا التبرير للاحتلال بالارهاب ـ بينما العكس هو الصحيح ـ تتحمل مسؤوليته التبعية اللغوية العربية للخطاب الأمريكي. إن الأصل في هذه التبعية هو السعي الى الاندماج في المعايير الأمريكية الرسمية، أي التقرب الى البيت الأبيض عن طريق الدخول في قاموسه الرسمي وتبني مفاهيمه كوسيلة دفاعية يتبرأ فيها هؤلاء الحكام من منفذي هجوم 11 سبتمبر العرب.


وقل الشيء نفسه مع كلمة الأبارتايد (الفصل العنصري) وتشبيه الممارسات الاسرائيلية بممارسات النظام العنصري السابق في جنوب إفريقيا، وهو التكتيك الذي تستخدمه عادة المنظمات الصديقة في الغرب في فعالياتها المناصرة لفلسطين فتحرج بذلك أنصار إسرائيل لأنها تفضح مرجعية المنطق الصهيوني الى نمط استعماري قديم رفضته الديمقراطيات الحديثة، وبالتالي ينكشف كذب الزعم الاسرائيلي بالانتماء الى هذه الديمقراطيات. هذه الكلمة لا يستخدمها العرب ـ مسؤولين وإعلاماً ـ إلا نادراً، زاهدين بقوة الحجة التي تتضمنها وبتأثيرها الحار في الرأي العام العالمي.


المطلوب ليس فقط ذكر هذه الكلمات والتأكيد على أنها هي الأصل لكل التطرف والطرق المسدودة في الشرق الأوسط، وإنما التكرار اليومي لها في كل مكان وكل مناسبة، لا من قبل السفراء والمسؤولين العرب فقط وإنما كل عناصر الخطاب: الملتقيات المختلفة ووسائل الاعلام الناطقة بالانجليزية وحتى تصريحات الشخصيات العامة، أي بالضبط مثلما يفعل أنصار إسرائيل في الغرب عندما لا يُفَوّتون مهرجانا فنيا ولا معرض كتاب دون أن يذرفوا فيه الدموع على quot;ضحايا الارهاب الاسلاميquot;.


ان رفض الحكومات العربية استخدام الامكانات اللغوية المتاحة في الصراع العربي الاسرائيلي يقدم صورةً توضيحية لرفض هذه الحكومات استخدام الامكانات المادية الهائلة التي تملكها وتمكنها من تحقيق مكاسب في صراع ترفض ـ من حيث المبدأ ـ الدخول فيه. وإذا كان الناس يسمون هذا استسلاماً فلأنه quot;حب من طرف واحدquot;، فالمعروف أن إسرائيل لم تعلن يوماً أنها ترفض محاربة العرب، وهي تحاربهم يومياً، بينما يصر حكامنا على رفض الحرب معها؛ كما إنه لم يتفوه (ولن يفعل يوماً) أي مسؤول إسرائيلي بالعبارة التي تغنى بها كثير من المسؤولين العرب وكررها عمرو موسى مراراً: quot;ان السلام هو خيارنا الستراتيجي!quot;. ما قصدته هو ان التبعية اللغوية العربية للخطاب الأمريكي هي التعبير السيكولوجي عن التبعية السياسية.

سمير طاهر
[email protected]