في خضم الأحداث الجارية اليوم في العراق كله،وحول كركوك خاصة، تبرز أمام المثقفين الكرد مسؤولية كبيرة، للوصول إلى طريق يجنب كردستان والعراق عموماً شر التمزق والصراع الدموي من جديد!


لقد عانى المثقفون الكرد كثيراً في محاولاتهم لقول الحقيقة، والدفاع عنها ونشرها في أوساط الشعب الكردي، وقد أقلقنا ما تعرض له بعضهم من اضطهاد وعسف من حكام كردستان الحاليين،جراء كتابتهم الجريئة والموضوعية في التصدي للفساد والظواهر السلبية الأخرى، وقد تضامنا معهم وسنبقى متضامنين!


وبجهودهم حصل هذا التطور الهام في عقل المثقف الكردي والمواطنين عموماً في تقبل النقد أو المعارضة لمواقف وسياسات القيادات الكردية،ولم يعد كذي قبل يعتبره تعريضاً أو انتقاصاً من الشعب الكردي وحقوقه، أو شخصية الإنسان الكردي!


من الأفضل،بين المثقفين، أن لا يستغرق في الحديث السياسي عن الوضع العام في العراق أو كردستان أو قضية كركوك، التي هي الآن محور منازعات ونقاشات حادة آخذة في التفاقم، لا لكون السياسيين يمكن أن يتحدثوا عنها أفضل من المثقفين، بل لأن هذا الحديث أضحى طويلاً ومتراكماً وربما صار مملاً، من الأفضل الحديث بما هو ثقافي وروحي وأخلاقي ويعتبر جوهر هذه القضايا التي طال السجال حولها وأضحى ينذر بأوضاع وتطورات خطيرة ستؤذي العراق وأهله جميعاً! ولكن لابد من ملامسة السياسة وبأقل قدر ممكن!


لابد من التأكيد أن قناعة أو نضال المثقف من أجل حق الشعوب في نيل حقوقها الوطنية وتقرير مصيرها بنفسها، لا يمثل منة أو تفضلاً منه على الآخرين بقدر ما هو امتثال وتطابق مع قيم العدل الحق والخير والتناسق وهي صلب الضمير البشري. وبنفس الوقت فإن هذا الحق يتطلب من الشعوب وقياداتها أن تكون هي أيضاً عادلة وموضوعية في تقديرها لحقوقها وابتداع الوسائل الطيبة أوالسليمة لنيلها، وإذا طبقنا هذا القانون على قضية الشعب الكردي نجد أن ثمة مغالاة كثيرة وأخطاء وخطايا قد أرتكبت على هذا السبيل من المتعصبين بين العرب والكرد ودفع ثمنها الشعب الكردي والعربي والتركماني والآشوريين والأرمن،ً ملايين القتلى والمعوقين والأرامل واليتامي والمكلومين والمشردين،ومساحات هائلة من الأرض المحروقة،والبيئة المدمرة!
فلقد كانت هناك مغالاة ومبالغات من قبل الأطراف كافة في حقوقهم، مثلما كانت هناك مغالاة ومبالغات في تقدير الواجبات والمستحقات على الغير!


وقضية كركوك ليست سوى قطعة نموذجية ساخنة على طريق هذه المبالغات والمغالات والذي هو طريق الآلام الطويلة نفسه،مثلما ستكون هذه المبالغات والمغالاة ماثلة في كل القضايا الأخرى التي ستطرح فيما يسمى بالأرضي والبلدات المتنازع عليها في الموصل وديالى وصلاح الدين وبدرة وجصان وشواطئ شط العرب في البصرة كما هو مؤشر عليها بما يعرف بخارطة كردستان الكبرى!


يتحدث المؤرخون أن معظم أرض شمال العراق خاصة سهولها وشعابها الرحيبة كانت لقرون طويلة قبل الميلاد مستقرا لحضارة الآشوريين،بما فيها هضبة وسهول أربيل والتي (تعني بالآشورية: الآلهة الأربعة)، وإن كركوك مدينة سومرية بنيت قرب النار الأزلية تلبية لاعتقاد ديني أسطوري، وإن اسمها مركب من ( كار : عمل وكرك : عظيم )،وبتلاشي حضارتي السومريين والآشورين آلت أرضهم لأقوام عديدة متنوعة وليس لقوم دون غيره. لقد نزح معظم الآشوريين من أرض أسلافهم لأسباب كثيرة معقدة، وهذا لا يعني أن أرضهم يجب أن تؤول لمن يستطيع أن يفرض وجوده عليها بالقوة، لابد من احترام حق سكانها القدامى والجدد وجميع الناس الذين ارتبطت حياتهم ومشاعرهم وذكرياتهم بهذه الأرض، ومنحهم كامل أرادتهم، بما فيها أرادتهم السياسية والإدارية عليها!


والكثير من الأدلة التاريخية والثقافية هي أقرب لمزاج الناس الذين يريدون أن تبقى كركوك مدينة عراقية يتعايش بها التركمان والكرد والعرب والأشوريون كما كانوا منذ أزمنة طويلة، أو إقليم خاص لذلك، مشكلين بذلك نموذجهم الذي يحبونه للعراق المتنوع الموحد، والقائم على التآلف الطويل والمصاهرة العميقة والمرتبط ببغداد كرمز للتاريخ العراقي الموحد، فلماذا يخرب هذا الحلم الإنساني الجميل والمشروع؟ وإذا كان يجري بناء العراق اليوم على أساس التنوع فلماذا لا تستوعب كركوك ضمن وضعها كتنوع أصيل درجت عليه أزماناً طويلة؟


لقد رفدت كركوك الثقافة العراقية بالكثير من الوجوه المبدعة من التركمان والآشوريين والكرد والعرب، وفيها ترعرت في الستينات بواكير حركة التجديد الشعري والنثري في الثقافة العراقية، ومنها خرج أبرز روادها ( فاضل العزاوي وسركون بولص ويوسف الحيدري وجليل القيسي، وأنور الغساني ومؤيد الراوي وغيرهم ) ونجد في نثرهم وقصائدهم تمثلاً لروح العراق المتعدد الأعراق والأديان والطوائف ونفوراً عميقاً من الضغائن والتجزئة والتعارض والتعصب!


ولو افترضنا أن القيادة الكردية بما لديها من تطرف ونزعة توسع وميليشيات بيشمركة وأسلحة قديمة وحديثة،استغلت ضعف الدولة والحكومة وظروف العراق الحرجة وفرضت إرادتها المنفردة وضمت كركوك إلى كردستان، ترى ماذا سيستفيد الشعب الكردي من ذلك؟
نعتقد انه على العكس سيخسر كثيراً، فهو قد يربح كركوك، لكنه سيخسر العراق كله، وربما سيخسر محيطه العربي والإقليمي وجزأً من الدولي أيضاً، ويفقد الكثيرين من الذين تعاطفوا معه طويلاً كشعب له حقوق مغتصبة، وسيتحمل وزر قياداته كسلطة تغتصب حقوق الآخرين وتحول شعبها من ضحية إلى جلاد!


لا بد من التساؤل لماذا تثير القيادات الكردية قضية كركوك بهذا الهوس ماضية في تحالفها مع القوى العربية الدينية الرجعية بينما هي تدعي العلمانية والتقدمية؟ ولماذا تعبئ لإثارة قضايا أخرى مهددة بالحرب والاغتصاب ساخرة من كرامة و تاريخ الآخرين،أهو مقدمة لانفصال قريب؟ إذا كان الأمر كذلك ألا يدعو الوازع الأخلاقي إلى طرحه بوضوح منذ الآن؟ وإجراء مفاوضات حوله وطرح حدود كردستان بصورة دقيقة وثابتة ونهائية لكي لا يعاد في كل يوم جدل ومنازعات وحروب حولها في المستقبل. الشجاعة والخلق القويم يقتضيان من القادة الكرد أن يتوخوا الصراحة والصدق،فهناك مخاوف حقيقية من أنهم يريدون امتصاص العراق واقتطاع أكبر جزء منه بترديد مقولة أنه لا ينتقل لدولة أجنبية، وإنما يظل ضمن حدود الوطن الواحد، ثم حين يعلنون الانفصال يكون قد أضحى جزءاً من دولة أجنبية فعلاً، وهكذا أساليب لا تنسجم مع ما يتحدث به هؤلاء القادة عن نبل ونزاهة في الصراع والمنازلة!
لا ينبغي أن يغمط حق الشعب الكردي، ولكن بنفس الوقت لا ينبغي له أن يظهر بمظهر الشعب العاتي المتجبر الذي يغمط حقوق الآخرين!


ما زال كثير من العراقيين رغم الصدمات المتكررة من مواقف وسياسات القيادات الكردية يحبذون أن يبقى الشعب الكردي متعايشاً مع شعوب العراق الأخرى، وأن يحقق أحلامه وطموحاته الصائبة في إطار العراق الفدرالي الموحد، ولكنهم مع ذلك يرون إنه إذا وجد مصلحته في الانفصال وبناء دولته المستقلة فهو سيكون موضع ارتياحهم ( فهم حتى الآن يتحملون نفقات كردستان ولا يتلقون منها غير المواقف النارية، من المتوقع أن تبلغ هذا العام 13 مليار دولار ) شرط أن تحترم قياداته حقوق العراقيين الآخرين ولا تتجاوز تحت تأثير الطمع ونزعات الهيمنة والتوسع على أراضيهم كجماعات بشرية استوطنت هذه الأرض وذادت عنها بدمائها وحياتها، وأن ترسم حدود كردستان وفق المعايير والقواعد الصحيحة والعادلة والمقرة دولياً. لذا فإن دعم حق الشعب الكردي لا يعني التطابق مع طروحات قياداته الحالية المشبعة بالغطرسة والنهم وعدم الشعور بالمسؤولية! فهذه القيادات حين تزج الشعب الكردي في معارك وصراعات وحروب تحت شعار كردستان الكبرى إنما هي تكرر أخطاء قادة القومية العربية وحزب البعث، غير معتبرة بما جرت على الناس والمنطقة من ويلات ومصائب، وغير معتبرة أيضاً بأن الأحلام الإمبراطورية تطيح عادة برؤوس أصحابها، بعد أن تحصد رؤوس الملايين من الأبرياء! zwj;
القيادات الكردية مهما اتسمت بالسذاجة فهي تعرف أن طموحاتها في كردستان الكبرى غير ممكنة التحقيق لأزمان طويلة قادمة، لكنها تغامر بهذه الشعارات وتثير كل هذه الزوابع والصراعات حولها فقط لتجعل منها ساحة مقدسة ترحل إليها كل مشاكلها المستعصية ووعودها التي لم تحقق للشعب الكردي بسبب الفساد الذي ينخر جسد سلطتيها في أربيل والسليمانية،وبسبب احتكارها للحكم وفرض أيدلوجية الحزب الواحد، والعشيرة الواحدة والعائلة الواحدة والشخص الواحد!إنها ذات القضية التقليدية : عدو قومي في الخارج يصنع لهم في الداخل عسل الولاء القومي المطلق،متجاهلين أنه عسل مسموم!


ترفض القيادات الكردية الاستفتاء الوطني العام حول كركوك،( كما تنادي المحكمة العليا في كندا حول مقاطعة كوبيك ) بحجة أن النتيجة ستأتي حتماً رافضة لضم كركوك إلى كردستان. إذاً لماذا يفرض على العراق حل رغم إرادته؟ ولماذا يفرض الجزء إرادته على الكل؟ القضية الكردية عموما وقضية كركوك خاصة هي الآن في طور التفاعل التاريخي ليس لدى الكرد وحدهم بل لدى الشعوب الأخرى في العراق كالعرب والتركمان، ولا يمكن أن تبقى شاغلة معيقة للعراق عن البناء والتطور وتحقيق الأمن والاستقرار، ولا يترك حلها رهناً بمبادرات وطروحات القادة الكرد الحاليين، أو تترك تحت رحمتهم خاصة وهم يكشفون يوماً بعد آخر عن نوايا ومشاعر عدائية للعراق كوطن للجميع، ويسدرون في عاصفة هوجاء! فكما للكرد الحق في الأخذ بنهج الاستقلال في قضيتهم، فإن للعرب والتركمان والاشوريين الحق في الأخذ بنهج الاستقلال في قضاياهم، وإن الفصل والانفصال هما حقان مشروعان للجميع ولا معيار ولا ضابط له إلا قواعد القانون العام، ومصالح الناس في أوطانهم، وقواعد العرف الإنساني!


إن وقتاً طويلاً سيمضي قبل الوصول لحلول لهذه القضايا بما فيها قضية كركوك، ومن المتوقع أن ترتفع فيه أكثر وتيرة أجواء الكراهية والشك التي غرستها أصلاً أجواء تصادم الشوفينيات الكردية والعربية ونزعات الهيمنة!بينما يعمل الوالغون في الفساد على مواصلة نهج الانغلاق القومي والطائفي،وصنع مراكز جديدة للإرهاب والابتزاز وشراء الذمم لتمرير صفقات التجاوزات والانتهاكات والضم القسري التي تعطى في البداية واجهات قومية، لتصير بعد نيلها مكاسب شخصية وعائلية معروفة!


ستبقى الثقافة هي الملاذ والسد الأخير للوقوف بوجه أمواج الشر المتصاعدة،ما يقتضي من المثقفين الكرد، الامتثال لضمائرهم، وخبراتهم وطاقاتهم الفكرية وعدم الانسياق وراء هذا الهوس القومي للقيادة الكردية، وأن يعملوا قدر المستطاع على إعادة هذه القيادات والزعامات المنفعلة إلى رشدها ويرسموا لها نهجاً من الموضوعية والعقلانية!


وهذا يقتضي تلاق وحوار فاعل بين الثقافات العراقية، لكن مد الجسور والتفاعل الثقافي بين الثقافة الكردية والعربية والتركمانية والآشورية لا يتم بالمهرجانات التي لا يستفيد منها سوى منظميها كمقاولات تجارية،وأكثرهم من الفاسدين، بل في خلق مجالات منظمة ثابتة ومتطورة لتنظيم عمل طويل مشترك، وبإشاعة روح الثقة والاحترام المتبادل وعدم التعالي أو الشك بثقافة الآخر، لقد أنجب الشعب الكردي عشرات المبدعين الذين أغنوا الثقافة العراقية بنتاجهم كجميل صدقي الزهاوي وبلند الحيدري ومجيد لطفي، وغيرهم كما إن الكثير من المثقفين العرب استشهدوا على أرض كردستان وهم يناضلون مع الشعب الكردي وفق قناعاتهم الصادقة، كل هذا يجعل العلاقة بين الثقافات العربية والكردية تاريخية وعضوية ومصيرية وتقتضي تعاوناً دائباً لحل المشاكل التي تعترض طريقيهما وخلق المزيد من التفاعل الحيوي مع الثقافات التركمانية والآشورية والكلدانية والسريانية! لا بد أن لدى المثقفين الكرد من الحصافة ما يمكنهم إهمال أو رفض الدعوات والصيحات التي يتملق بها بعض من المثقفين العرب من داخل العراق أو خارجه إلى قادتهم سواء بدافع الإغراء أو الشعارات المستهلكة لتشجعهم على الإصرار على تغيير وضع كركوك التاريخي،إن من يحرص على مصالح الشعب الكردي هو من يقدم له الحقائق لا الأوهام!


ربما يطلب من المثقفين الكرد فوق ما يطيقون، لكنها مهمات تفرضها حقيقة أن الوضع العراقي في منعطف حاد،وأن أشباح الخطر تحوم فوق رؤوس الجميع، بينما الناس والأرض قد تعبا كثيراً،وهما أحوج ما يكونا للأمن والاعمار والسلام!

إبراهيم أحمد