الإنسان في هذه الحياة يسير وفق مبادئ وأخلاقيات يؤمن بها ويطلبها وقد لا يتنازل عنها.. وتظل هذه القناعات هي التي تتحكم في مسار حياته وفي رغباته، وتحكم علاقاته ومعاملاته. وتتولد هذه القناعات غالباً من التعاليم الدينية التي يتبعها الفرد ويلتزم بها ويجعلها دليلاً يهتدي بها في حياته ومنهجاً يرسم توجهاته.. وتأتي التربية المنزلية كأحد المولدات الرئيسية لهذه القناعات حيث تبدأ القناعات بالتشكل في المراحل الأولية للإنسان حيث يكون المنزل هو اللبنة الأولى لغرس تلك المبادئ.. ومع بلوغ الإنسان وتقدمه في العمر تبدأ المصادر الأخرى في تغذية تلك القناعات لتعيد تشكيلها أو تعمل على تغييرها أو تخلق قناعات إضافية تستمر مع الفرد حتى ndash; ربما ndash; نهاية عمره الافتراضي!.

والقناعات أشكال وألوان.. منها القناعات العقائدية التي من الصعب أن تتغير أو تتبدل.. فالإنسان المسلم كمثال والذي يؤمن بأن الله هو النافع وهو الضار لن ترهبه خرافات السحرة أو المنجمين أو المتفذلكين الذين يأكلون أموال الناس بالباطل.. فهذه القناعة تحمي أصحابها من السير خلف تلك الأوهام.. ومنها القناعات العلمية التي أثبتتها التجارب وجزمت بصدق حدوثها كدوران الأرض حول نفسها وحول الشمس.. فهذه القناعة أصبحت الآن بمثابة الحقيقة الغير قابلة للجدل، وإن كان بعض علماء الإسلام أنكرها مستشهداً بالقرآن الكريم لرفضها كحقيقة.. وهناك القناعات الاجتماعية التي أيضا لديها حصانة عجيبة ضد رياح التغيير والتبدل.. ومن أمثلة تلك القناعات الاجتماعية ما يدور في بعض المجتمعات القبلية من رفضهم مصاهرة من هم خارج حدود القبيلة أو خارج حدود الأصالة التاريخية!.

وهناك قناعات متغيرة حسب الأحوال والأوقات، وتبعاً لظروف الزمان والمكان.. فالإنسان كلما تقدم في العمر تبدلت قناعاته لتتلاءم مع هذا التقدم.. وتلعب الديار دوراً مهماً في إعادة تشكيل القناعات وتقييمها.. وأعني بالديار تغير الأماكن والبلدان التي قد يذهب لها الإنسان لأسباب معيشية أو علمية أو سياحية.. فالعالم المصري محمد عبده تبدلت قناعاته وتغيرت آراءه حينما ذهب إلى فرنسا لمواصلة تعليمه!.. وسيد قطب عاد بمنهج جديد وقناعات جديدة بعد أن مكث في الولايات المتحدة فترة من الزمن!.. كذلك العلوم الحديثة والنظريات والتحصيل العلمي تلعب دوراً في تغيير القناعات وتبدلها.. فنظرية دارون حول أصل الأشياء كانت في وقت مضى نظرية لا تقبل الجدل ولديها قبول كبير عند شعوب كثيرة، ولكن مع التقدم العلمي تضاءلت نسبة التأييد لهذه النظرية حتى أصبح ربما من يؤمن بها مشكوكاً في صحته العقلية!.. وحرمة التصوير في الماضي وحتى بدايات التسعينات من هذا القرن كانت من الثوابت التي يقف عندها كثير من الناس ويقول بها أغلب العلماء حتى ضاعت بسببها الكثير من الذكريات واختفت ألاف اللحظات، ولكن لم يبقى الآن للتصوير ذلك القدر من الحرمة، وتنازل كثير من العلماء عن تلك القناعة بسبب تقدم العلوم الشرعية وانخفاض الحصانة الاجتماعية التي يفرضها الناس في السابق!.

وليس عيباً أو أمراً محرجاً تغير القناعات وتبدلها.. بل هو أمر صحي وضروري لاستمرار عجلة التقدم والنمو.. النمو الشخصي للإنسان والنمو الكوني للمجتمعات.. ويجب أن تخضع القناعات لميزان التقييم والمراجعة لمعرفة الصادق منها والباطل.. ولمعرفة الصالح والفاسد.. فلا جدوى من المحافظة على بعض القناعات التي لا نفع من وراءها ولا أثر يُرجى من استمرارها.. بل تواجدها عبء على صاحبها وتكبيل لإرادته ومهاراته ومواهبه.. وفيها تعطيل لتقدم المجتمعات وتطورها..

وحين نتكلم عن بيئة الاغتراب ومجتمعات المغتربين والمبتعثين خارج حدود الأوطان فإننا نتوقع سقوط قناعات كثيرة وتبدلها للأحسن أو ربما للأسوأ.. فالطالب المبتعث حين يختلط مع شعوب أخرى ويتشرب عادات مغايرة للعادات التي نشأ عليها فإننا يجب أن نجزم بتساقط قناعات شرعية أو اجتماعية أو سلوكية.. فشرب الخمر من المحرمات عند الكثيرين، بل هي من الكبائر لكنها مع الوقت أصبحت من الصغائر التي لا يلتفت لها المبتعث ولا يهتم بها!.. والحجاب الذي كانت تتوشح به بعض المبتعثات أصبح خرقة ملفوفة في الحقائب لا تعرف للعالم الخارجي شكلاً إلا حين يعلن ملاح الطائرة دخولها حدود الوطن!.. ومن القناعات التي تتغير للأحسن هي الحرص على التميز العلمي والبحث عن المجالات الإبداعية التي تبني شخصية المبتعث.. ومنها المشاركة في النشاطات الطلابية ومخالطة الأجناس الأخرى بعيداً عن التقوقع والانطوائية الفردية أو الإقليمية!.

قبل فترة ليست بالقصيرة، ومع بدايات برنامج الإبتعاث الخارجي في المملكة العربية السعودية طرحت إحدى عضوات الملتقى السعودي في أمريكا مداخلة على موضوع يناقش المرافق وشروط التحاقه بالبعثة!.. ومما ذكرته تلك العضوة أنها حين حصلت على البعثة وخرجت مع الدفعات الأولى للبرنامج جاءتها اعتراضات وتحفظات من الأهل والأقارب الذين أنكروا عليها ذهابها للغربة واختلاطها مع الغرباء في الفصول وفي الحياة العامة مع أن هذه المبتعثة قد سافرت مع أخيها الذي هو مرافقها.. تواصل المبتعثة.. ولكن بعد السنة الثانية وجدت أن من اعترض وتحفظ على سفرها من الأعمام والأخوال قد أرسلوا بناتهم للالتحاق بالبعثة لوحدهن ودون مرافق!!.. أمر غريب لكنه متوقع.. فالقناعات تخضع أحياناً لضغط الواقع ولا تصمد أمامه مهما كانت تلك القناعات صلبة أو ثابتة أو عسرة على التغيير!.

الدكتور خليل اليحيا

المشرف العام على الملتقى السعودي في أمريكا

http://khaleelya.maktoobblog.com