لم يكن اغتيال كامل شياع عشوائياً أو بالمصادفة،كالذي يحدث كل يوم في العراق، كما لا يمكن اختصاره برسالة تهديد إلى الحكومة، إنه أكبر من هذا بكثير،إنه كاغتيال رفيقه قاسم عبد الأمير عجام قبل حوالي أربع سنوات، وشهاب التميمي قبل أشهر مقصود بالاسم وبالهوية، وضمن خطة متأنية وحثيثة لتطهير وزارة الثقافة والثقافة عموماً من أية شخصية علمانية وموضوعية، وللإجهاز على ما تبقى من ثقافة إنسانية وطنية بنيت عبر جهود أجيال من المثقفين العراقيين المستنيرين ومع مسيرة بناء الدولة الحديثة إلى انتكاستها الكبيرة أواخر الخمسينات، وما تلاها من انتفاضات ثقافية محدودة حتى تلاشيها باغتصاب حزب البعث للسلطة عام 1968!
ومع ذلك لم يعد مجدياً أن نعرف قتلته المباشرين، فهم لا يعنون شيئاً،ولا يغير إلقاء القبض عليهم أو تسجيل جريمتهم ضد مجهول من الأمر شيئا. فهؤلاء مجرد أوغاد سفلة منحطين أجروا ببضعة دولارات، قتلوه دون أن يعرفوا من هو، في العراق فقط صار القاتل لا يعرف من قتل ولماذا قتل، فهو مبرمج كالربوت من قبل مجرمين كبار، والقتيل لا يعرف من قتله ولماذا قتله! لم يعد ذلك مهماً، فالموت هواء الجميع، وماءهم الملوث القادم من مجاري الصرف الصحي!
صحيح وإلى مدى بعيد ما يقال أننا نهرب من حقائق صادمة في أعماقنا!وإن ثمة خللا ً فينا كعراقيين صنعنا تاريخ خاص،يهيئنا لهذا النوع من الموت،وإن القتلة الكبار والصغار، مهما كانت ملامحهم بشعة،وتافهة،وبأية دولة ارتبطوا،هم قد خرجوا من أحشاء مجتمعنا، ما يستدعي معركة أولى مع الذات، قبل أية معركة مع الآخر!
من الواضح أن الذين قتلوا كامل هم مخالب فقط. ولكن هل توجد مخالب دون أجساد لوحوش وضوارٍ تحملها وهي طليقة في مجاهل الغابات أو مجاهل المدن؟ من صنع هذه الوحوش؟ لو تقصينا الحقيقة سنجد،الكثير: الحروب المدمرة الخائبة، التسلط والفقر الطويلان،المجاعات والفيضانات والطواعين،الدين الذي فرض بحد السيف،المرأة التي كبتت وسحقت لتنجب مسحوقين وساحقين، الأيدلوجيات المستنسخة المستوردة والمصدرة، احتلال العثمانيين للعراق لأربعمائة عام من الجهل والظلام والعار، حروبهم مع الصفويين على أرض العراق، الاحتلالات الأخرى وصولاً للاحتلال الأمريكي الذي هو تتويج ونتيجة لمسار داخلي إجرامي وانتهاكي طويل، ثقافة الدم والقسوة والدموع،وحروب الطوائف والقوميات المتنافرة!
وغيرها كثير!
آنذاك سنكون أمام كائن أسطوري ضخم هائل وسيقال: quot; لا! هذا غير معقول، لا يمكن لهذا الأخطبوط الخرافي أن يلاحق كامل شياع وهو في سيارته على الطريق السريع في بغداد ويطلق عليه النار من مسدس صغير كاتم للصوت،لا، أنت تضخم القضية، تعممها، تذيب كأس الدم في البحر فيضيع! وهذا صحيح إلى حد ما، لكن ما هو غير صحيح تصور أن القتلة قد جاءوا من خارج نسل هذا الأخطبوط الرهيب!
كامل شياع كان قد أدرك ذلك، ترك بيته وولده وحياته الآمنة الناعمة في بلجيكا وجاء إلى العراق وجنونه ليواجه هذا الأخطبوط! هل كان حالماً؟ واثقاً بنفسه أكثر مما يجب؟ هل كان حالماً واثقاً بشعبه وبالإنسان أكثر مما يجب؟
التقيت به في وزارة الثقافة بعد سقوط نظام صدام، وعملنا معاً. كان باسماً حتى في لحظات انزعاجه، دؤوباً نشطاً متحركاً لا يهدأ، كأنه يرى كل أذرع وأقدام الأخطبوط، وإذا ما قطع منه جزءاً ولو ذرة واحدة في اليوم الواحد، يحس براحة، كان يأمل أن يصل يوماً إلى قلب الأخطبوط ويجهز عليه، كان ذلك مستحيلاً،فإذا كنا نقتطع منه في اليوم الواحد حرشفة أو حبة خردل، فإن الأخطبوط كان يكبر ويتضخم، وفي كل يوم تبنى له أضرحة ومقدسات جديدة، وفي بلد منهك من حصارات طويلة، وبدأت تستنزفه حروب أخرى كثيرة.
كان الدخول مع هذا الأخطبوط في حرب استراتيجية حاسمة، يعني التصادم مع الذات برمتها، أولاً وأخيراً! وبينما ثمة من يتحدث عن حرب مع المحتل فإن هذا سيكون صحيحاً لو إن حربنا مع الذات ستتواصل، وبشجاعة وعمق ووعي. لكن الخشية (وهذا أثبته الواقع) أن الذين ينادون بمحاربة المحتل بالآربيجي والهاونات وبين بيوت الناس أيضاً لا يريدون أي صراع مع الذات، ولا أي تغيير في موروثاتها البائسة، بحجة أنها من الثوابت الوطنية والمقدسة، بينما هي من ثوابت مصالحهم الشخصية،والطائفية! وإنهم يريدون الانفراد بالضعفاء الذين لم يجدوا نصيرهم للأسف، إلا في عون خارجي!
كانت أولى حروب كامل شياع مع ذاته أنه تخلى عن موروثه الجمعي والطائفي الباليين وانتمى لوطنه، وعانق ضميراً صافياً، وخلقاً حضارياً راقياً، وتصدى في أعماقه للأيدلوجية المستنسخة والترداد الببغائي لمقولاتها. فكان ضد تسيس الثقافة أو أدلجتها، على العكس وجدته يطمح لتثقيف السياسة وأنسنتها وإضفاء نوع من الشاعرية عليها،لم يكن حزبياً مغلقاً جامداً، كان متفتحاً مطمئناً لمقولة ماركس من أن النظرية أو الفكرة إذا تلبست الجماهير تصير قوة مادية جبارة، كان يجد فيها وصفة طبية أو عسكرية لمنازلة الأخطبوط والوحش الأسطوري، وكان يمارس أفكار كرامشي الشيوعي الإيطالي عن المثقف العضوي في هذا السياق: ويرى أن المثقف هو عضو فاعل كالمخ في الجسد، اختلاله يعني خبال المجتمع!
كان يعد كل أسلحته الفكرية بهدوء وصمت وكان يعرف إن وزارة الثقافة هي آلة من آلات الدولة لمنازلة هذا الوحش! لم يكن يحارب الأيدلوجية بالأيدلوجية، كان يعرف أفق أيدلوجيته الشيوعية بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، ويرى أن الوصول إلى حرية الإبداع وطلاقته يقتضي جهداً كبيراً، ووقتاً طويلاً، ويتمنى لو يصرع الأخطبوط دون أن تسيل قطرة دم واحدة،ولكن مرة أخرى:من هو الأخطبوط؟ ليس الإرهابيون فقط هم الأخطبوط، هو قائمة طويلة(هو فاتك وابن فاتك وذو نسب في الفاتكين عريق! مع الاعتذار لأبي العلاء المعري )
مثقف هذه مهمته وهذا هدفه، سيكون عمله اليومي شاقاً وحياته الباقية على لائحة الموت حتماً، كان يدور كالطيف، في وزارة تعاقب عليها، حزبي شيوعي، وشرطي، وأصولي إرهابي،ووكيل متنفذ يقوم حتى اليوم بتسيير مواكب اللطم والتطبير من ديوانها، واليوم وزير نكرة،رشحته نفس القائمة الطائفية التي جاء منها الوزير الإرهابي!
كان كامل يتعذب وكنت أرى احباطاته كل يوم، ذهبت وإياه ذات ظهيرة قائظة في مهمة حزينة، فقد علمنا أنهم يزمعون توسيع جامع براثا في العطيفية، وإن باحة الجامع ستبتلع القبور المحيطة بها وبينها قبور: على الوردي، وجواد علي، وعلى جواد الطاهر،وطه باقر ( كما أتذكر ) وقد أردنا مقابلة إمام الجامع لنفاوضه أو نرجوه: عدم مد الباحة ومحو هذه القبور، وفي حالة إصرارهم على مدها فوقها، فليمهلوا وزارة الثقافة وقتاً كافياً لكي تنقل رفات هؤلاء الأعلام إلى مكان يليق بمكانتهم وذكراهم، بقينا ننتظر لساعتين أو أكثر في حر خانق،علنا نحظى بمقابلة إمام الجامع هذا، وأخيراً خرج علينا سكرتيره ( ولأول مرة أرى سكرتيراً لإمام جامع) ليعلمنا أن السيد لن يأتي اليوم، فهو مشغول باجتماع هام،ورفض إعطاءنا موعداً آخر! رجعنا خائبين، أحدنا ينظر في وجه الآخر، فلا يرى سوى حزنٍ وصمتٍ ينطويان على كلام جارح:هذا حال المثقف في بلادنا، لا ينجو من الانتهاك حتى حين يصير تراباً، ولا يستطيع المثقف أن يفعل لزميله شيئاً،ولو إنقاذ ما آل إليه من تراب، ولا استجارة لدى جهلة ربحوا كثيراً من الاستثمار في الدين! ماذا يعني الوردي والطاهر وجواد على وطه باقر عند جلال الدين الصغير إمام وخطيب جامع براثا، وعضو المجلس الإسلامي الأعلى؟
ثقافة الدم المؤدلج أحد أذرع الأخطبوط،حشوها من الجهة الأخرى بأورام الأوهام الثورية،وفجروها من الداخل،فكانت ثقافة عراقية صرفة، بدأها في العهد الجمهوري الذين سحلوا جثث حكام العهد السابق، وتوالت على أيدي البعثيين والقوميين والشيوعيين أيضاً، وليس من المؤكد أنها استوردت من صراعات أوربا القومية، لدينا في تاريخنا القديم والوسيط معين كبير،و تفنن شعراء في صياغتها وتأجيجها وبالسهل الممتنع، لنقرأ شعر الجواهري والبياتي والنواب وغيرهم، نرى ما يعادل حوضي دجلة والفرات من الدماء، وما يوازيهما من شعر استدرار الدموع واللطم والعويل (اليوم الدولة صارت تنظم وتفاخر بنهر الدموع والعويل،وقد يسمى بالنهر الثالث ) ثقافة عنيفة جامحة غائبة عن نفسها، لا تنتج سوى أنهارٍ للدم وأخرى للدموع، لا بد أن تكون تربة خصبة للإرهاب المعاصر. كان الجواهري على رأس النهر الدموي يصرخ: quot;تقحم لعنت أزيز الرصاص!quot; يزجه في معمعان الموت ويلعنه مقدماً، أية متاهة مضحكة مبكية!
لم يستطع كامل أن يجعل ولا حتى سينما واحدة أو مسرحاً أو قاعة موسيقى تفتح أبوابها،كانت مقترحاته ومشاريعه تحبس في أدراج متنفذين يلبسون العمامة الضيقة على عقولهم لا على رؤوسهم!
أضحت الثقافة العراقية تغذي نفسها بالانكماش والموت،فقد وصل الفساد والظلام إلى نخاعها وصار هو لوحده ينتج الخلايا السرطانية التي تنهش أرواح الناس قبل أجسادهم!
ثمة حقيقة فاجعة: ثقافتنا الغيبية أكبر من ثقافتنا المعلومة،آلاف المرات! وليت الغيبيين راضون!
كان واضحاً ومنذ البدء أن معركة كامل شياع مع الاخطبوط الأسطوري غير متكافئة،والطرف المنتصر معروف تماماً!
آلمني كثيراً أنني فارقته قبل سنوات،ظروف صعبة معقدة ليس هنا مكان شرحها جعلت من غير الممكن لعملي في وزارة الثقافة أن يستمر. بعد رحيل مفيد الجزائري ظل هو وميسون الدملوجي وقلة شجاعة مضحية يصارعون لوحدهم ركائز التخلف والظلام في الوزارة، وقد توسعت وازدادت عتواً وشراسة في الأربع سنوات الأخيرة!
بينما كثيرون حتى من دعاة التقدمية في الداخل والخارج راحوا يتفرجون، بل ويكيلون الطعنات والاتهامات،متجاهلين أن المعركة في العراق في جوهرها هي معركة بين القديم والجديد،بين الوعي والغيبوبة، بين الانفعالي والموضوعي، وبين الشعوذة والدجل من جهة وبين العلم والحقيقة من جهة أخرى،بين الوطنية العميقة المدركة لتفاصيلها وممكناتها، وبين الوطنية السطحية المستهلكة المتوارثة كالثياب التي فات زمانها!
لماذا استهدف القتلة من وزارة الثقافة كامل شياع وقاسم عبد الأمير عجام؟ ببساطة، لأنهما كانا يحملان مشروعاً علمياً للتنوير والتغيير! وإن قتلهما وغيرهما من المثقفين يبعد الخطر عن ثقافتهم المتعفنة! ومن هنا يمكن أن ينطلق،من يريد أن يعرف القتلة!
إذا استمر الأخطبوط الأسطوري يلف أرجله وأذرعه على الدولة والمجتمع فلسنوات طويلة وربما لحقب كأنها الأبدية لن يكون مكان أو حيز لمثقف حر في العراق، سيكون المثقف محظوظاً لو طمأنته الدولة أو المجتمع في يوم الشجرة،لا في يوم المثقف الذي لا وجود له،بكلمة تقول فيها: ( اطمئن لن نقتلك هذا اليوم، غداً، لا ندري!) و سيرقبونه وهو يصارع الوحش الأسطوري، سيفرحون كثيراً أن الأسطورة في مكانها، وهي التي ستبتلعه في النهاية بصمت،بمسدس كاتم أو ثرثار،أو بالموت كمداً! وهم في قناعاتهم الكسولة المسترخية،مستريحون تماماً: يأكلون ويشربون ويتضاجعون ويتناسلون ويصلون ويذهبون للحج،ويبكون على الأطلال،وسلام هي حتى مطلع الفجر!
ضمائر كثيرة تدعي العدالة والشعور بالمسؤولية لم تقل شيئاً حتى الآن: لمقتل شهاب التميمي ومجيد حنون وإنعام معملجي واحمد الحجية،ومئات من أساتذة الجامعات والأطباء والمهندسين والفنانين والسياسيين الشرفاء، رجالاً ونساءً. ولماذا تقول شيئاً وهي مطمئنة على رواتبها ومكاسبها وسلطتها وسرقاتها وثقافتها التي تقول: إن الله يرزق من يشاء! وإنه غفار الذنوب!
كنا قديماً نخدع أنفسنا بتفاؤل ثوري واهم فنخاطب الشهيد أن دمه سيلاحق القتلة! لا، لن تستطيع مصفحات الدولة الجديدة، ولا دبابات الأمريكان الوصول للقتلة، لا لأنها لا تريد ذلك، بل لأن القتلة مختبئون في جوف الحوت، في أذرع ذلك الأخطبوط الذي لا تجروء الأكثرية على تشخيصه أو تسميته، بل هي تريد أن تتنفس الهواء النقي داخل جوفه، وتنحني له كل يوم،رافعة يدها بالدعاء!
فجيعة كامل كما عرفته ليس فقده لحياته، وعدم وداعه لولده البعيد عنه، وليس خسارته الشخصية للمعركة، إنما هي خسارة الشعب كله لمعركته مع هذا الأخطبوط غير المرئي،والذي يخفى بعباءات الرجال والنساء،وبالحجاب والنقاب، والمتربع على كل شيء، من أعلى الدولة حتى أسفل المجتمع،وهو الذي يجعل آلية المجتمع اليوم كابحة لا دافعة! هذا هو حزنه الكبير الذي حمله معه إلى القبر!
ابراهيم أحمد
التعليقات