نشرت قبل أيام مقالة بعنوان quot; العدالة الاجتماعية والمساواة ليستا من مفردات الشيوعية quot; وكان هدفي من الموضوع هو نزع الغطاء عن زيف دعاوى المساواة والعدالة الإجتماعية وقد حلتا محل الإشتراكية في خطاب الشيوعيين المنكفئين من أنصاف الماركسيين. وقد شرحت في المقالة كيف ستنقل الشيوعية الإنسانية جمعاء إلى فجر جديد لعالم جديد لا تعود فيه أية حاجة للحرية وللعدالة وللمساواة وذلك بسبب انعدام نقائضها، انعدام القهر والظلم والتمييز. وهذا من البديهيات في علوم الماركسية.

لشد ما هالني أن يقابل عامة الشيوعيين العرب مثل هذه الأفكار الأولية للماركسية، التي كان يجب أن تكون موضع فخارهم، أن يقابلوها بكل هذا الصخب والاستنكار الشديدين حتى أن أحدهم أرسل إلي رسالة تقول.. quot; كراهيتك للشيوعية دليل عل أنك صاحب قلم مأجور.. وحاقد بسبب طردك من الحزب الشيوعي quot;. هؤلاء الشيوعيون إسماً يقبلون بالشيوعية دون دولة ودون نقود لكنهم لا يقبلون بها دون حرية ودون عدالة اجتماعية أو مساواة! لكن لماذا كل هذه الغربة، غربة الشيوعيين عن الفكر الشيوعي، الفكر الماركسي؟ مثل هذا السؤال الكبير هو أهم سؤال تواجهه الحركة الشيوعية اليوم ؛ ومن شأن الإجابة عليه أن تكشف فضيحة مجلجلة في العمل الشيوعي كما تكشف أسباب انهيار المشروع اللينيني.

في ذات المقال كنت أشرت إلى أن الأممية الثالثة، أممية لينين ومشروعه الإشتراكي، كانت، وبحكم ظروف قيامها، قد قسّمت العمل الشيوعي بين الأحزاب الشيوعية في البلدان الصناعية المتقدمة حيث تتوجه نضالاتها إلى تسعير الصراع الطبقي حتى الثورة والاستيلاء على السلطة، واِلأحزاب الشيوعية في البلدان المستعمرة والتابعة حيث تنحصر نضالاتها في التحرر من ربقة الاستعمار وفك الروابط مع سوق الإمبريالية الدولية. الفرق بين عمل الشيوعيين في البلدان الصناعية المتقدمة والشيوعيين في البلدان المتخلفة فرق نوعي كبير يتجلّى في عدد من الحقائق منها..

1. نسيج الحزب الشيوعي في البلدان المتقدمة هو من النسيج البروليتاري، بينما في البلدان المتخلفة هو من نسيج البورجوازية الوضيعة، والبورجوازية الوضيعة تختزن أكبر المثالب بين الطبقات الإجتماعية المعروفة.
2. نضال الشيوعيين في البلدان المتقدمة ينصرف إلى تسعير الصراع الطبقي وما يقتضيه من تزويد البروليتاريا بأدوات الصراع اللازمة. أما شيوعيو البلدان المتخلفة فنضالهم يعتمد على التآخي الطبقي كيما تقبل بهم البورجوازية الوطنية كفصيل من قواها الإحتياطية.
3. هدف الشيوعيين المباشر في البلدان المتقدمة هو الانتقال إلى عبور برزخ الإشتراكية بدءاً بالثورة الإشتراكية، أما في البلدان المتخلفة فالمحطة التالية في طريقهم بعد الاستقلال هي بناء الإقتصاد الوطني وفقاً لشروط البورجوازية التي قادت حركة التحرر الوطني.
4. شيوعيو البلدان المتقدمة هم الذين يقودون العمل الثوري وقد تتواجد خلفهم أطياف من البورجوازية الوضيعة، بينما يتِأخر شيوعيو البلدان المتخلفة إلى الصفوف الخلفية لقلة حيلتهم في التوازي مع البورجوازية الوطنية المسلحة بأدوات للصراع لا يمتلكها الشيوعيون بالطبع.
5. شيوعيو البلدان المتقدمة ينصهرون في بوتقة الصراع الطبقي ليتحول معدنهم بعدئذٍ إلى مناضلين من طراز جديد وقادة أكفاء للبروليتاريا، أما شيوعيو البلدان المتخلفة فسياستهم العامة في التآخي الطبقي مع البورجوازية الوطنية ومع الفلاحين من شأنها أن تعزلهم إلى مؤخرة المعركة الوطنية وتترك الكتب الماركسية على الرفوف.
6. الأحزاب الشيوعية في البلدان الصناعية لها شرعيتها الذاتية الوطنية، الشرعية التي تفتقدها الأحزاب الشيوعية في البلدان المتخلفة والتي تعتمد في مشروعيتها على مشروعية المشروع اللينيني فقط.

الأدب الماركسي هو أدب الصراع الطبقي وإدارة الصراع بنجاح، بينما التآخي الطبقي يزدهر بعيداً عن الفكر الماركسي ولا ينتهي في طريقه إلى العمل الشيوعي. لذلك، وبالنظر إلى الحقائق الستة المشار إليها، يمكن القول أن الشيوعيين في البلدان المتخلفة الأطراف، بلدان محيط الإمبريالية، لم يمارسوا العمل الشيوعي على الإطلاق. بدءوا وطنيين وانتهوا وطنيين بذات الطراز الذي بدءوا به في منتصف القرن العشرين غير أن السياسة الوطنية في منتصف القرن العشرين قد غدت سياسة لاوطنية في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، بل ويمكن وصفها في حالات كثيرة بالخيانة الوطنية.

ليس من شك في أن المشروع اللينيني في انتصار الثورة الاشتراكية العالمية احتاج إلى العمل على تفكيك النظام الرأسمالي ليس في المراكز فقط بل وفي الأطراف أيضاً. لكن العمل في الأطراف لم يتعامل مع النظام الرأسمالي كما هو في البناء الأصيل الذي انتقده ماركس، البناء الذي تخلّقت في غرفه ودهاليزه كل النظرية العلمية الماركسية حتى الجانب الفلسفي منها. ولذا يمكن القول من الناحية العلمية الخالصة أن الأدب السياسي الذي تأدبت به الجماعات quot; الشيوعية quot; في بلدان محيط الرأسمالية لا علاقة له بالعلوم الماركسية. قوة الجاذبية التي عرفت للماركسية والتي كانت كافية لتجتذب إلى تيارها جماعات مختلفة من البورجوازية وعلماء كبار لا ينتمون إلى البروليتاريا من مثل انشتاين واوبنهايمر، الملقب بأبي القنبلة الذرية، وزوجته والزوجين جوليوس واثيل روزنبرغ في الولايات المتحدة وفردريك جوليو كوري وروجيه غارودي في فرنسا، قوة الجاذبية المدهشة تلك افتقدها الأدب quot; الشيوعي quot; في البلدان المحيطية. قوة الجاذبية التي استخدمتها الأحزاب الشيوعية في البلدان المحيطية إنما هي قوة مستعارة وليست ذاتية أو وطنية. كان ما يجتذب عناصر البورجوازية الوضيعة إلى الأحزاب الشيوعية في البلدان المحيطية هو النجاحات الهائلة التي حققها الحزب الشيوعي السوفياتي وخاصة انتصاره في الحرب العالمية الثانية وتخليص العالم من الوحش النازي ـ وفي هذا المقام يستحق المثل الشعبي القائل.. قرعاء وتتباهي بجدايل بنت خالتها. الأحزاب الشيوعية المحيطية لم تحقق سوى الأفشال كما في إيران وفي أندونيسيا وفي العراق، والانكماش حتى التلاشي بعد انهيار مشروع لينين. أما شيوعيو البلدان الصناعية فكان لهم انتصاراتهم الملموسة في الصراع الطبقي.

كان انضمام جماعات من أطياف البورجوازية الوضيعة للأحزاب الشيوعية في البلدان النامية من أجل تحقيق الهدف الرئيسي وهو الاستقلال وبناء اقتصاد وطني لا يرتبط بمراكز الرأسمالية ؛ ويؤكد اليوم هؤلاء أنهم ما كانوا لينضووا تحت راية الشيوعية لولا أشواقهم للمساواة والعدالة الإجتماعية!! التحليل النهائي والعلمي الدقيق لجملة هذه الأهداف لا يجد الماركسي الحصيف أي هدف منها يتحقق في حالة شيوعية، بل إن الحالة الشيوعية تتناقض تماماً مع هذه الأهداف التي لا يمكن تحقيقها في أي حالة من الحالات حتى بافتراض المجتمع في حالة quot; الديموقراطية الإشتراكية quot; المؤسسة على quot; المساواة والعدالة الإجتماعية quot; كما يتخيلها مثاليو البورجوازية الوضيعة.

عندما اجتازت البشرية عتبة النظام الرأسمالي وتعرّفت على نمط الإنتاج فيه وأدواته كليّة القدرة، تيقنت أن اقتصاد أي دولة مهما كانت مساحتها وعدد سكانها لا يمكن أن يقوم ويستمر معزولا عن العالم وكيما يكون قابلاً للحياة لا بد أن يرتبط بروابط متعددة مع اقتصادات العالم والسوق الدولية. وتأكد ذلك في البنية الحيوية الخلوية اللازمة للوحدة الرأسمالية، بنية النواة والمحيط، المركز والأطراف ؛ وكذلك في الحروب الدورية اللازمة لإعادة إقتسام المستعمرات. في العام 1916 وجد لينين (الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية) أن ثمانية مراكز رأسمالية إمبريالية تقتسم المعمورة بأكملها كأسواق ومناطق نفوذ لها. كان يستحيل على أي شعب من الشعوب أن يحقق استقلاله في وسط غابة تسيطر عليها هذه الذئاب الإمبريالية الجائعة. لذلك أشار لينين في خطابه لزعماء الشرق المجتمعين في باكو ndash; أذربيجان (1921) إلى أنهم لن يستطيعوا أن يحققوا أياً من طموحات شعوبهم في جميع الأحوال إلا بالاعتماد على الإتحاد السوفياتي ـ وكان العرب قد اختبروا هذه الحقيقة بفشل مشروع البورجوازية الشامية بقيادة الشريف حسين بالتحرر والاستقلال وقيام المملكة المتحدة وانتهائه باتفاقية سان ريمو (1920) التي قسّمت المشرق العربي إلى مناطق نفوذ بين بريطانيا وفرنسا ؛ بل تعذّر تحقيق أي استقلال قبل خروج الإتحاد السوفياتي من الحرب العالمية الثانية كأقوى قوة في الأرض عام 1945. لذلك كانت فترة 1946 ndash; 1972 هي فترة التحرر الوطني الفعلي بفضل وجود الإتحاد السوفياتي القوي كحارس قوي لحركات التحرر.

أهم الدروس التي طرحتها فترة التحرر الوطني هو استحالة الحياد بين المعسكرين. لقد ساهمت قوى التحرر الوطني مساهمة كبرى في تفكيك النظام الرأسمالي الإمبريالي العالمي وهو الهدف النهائي لمشروع لينين الإشتراكي. عبثاً حاول الكثيرون من زعماء قوى التحرر الوطني التعاون الديموقراطي والمخلص مع قوى الغرب الرأسمالي دون أن ينجح أي منهم، وخير مثال على ذلك الزعيم المصري جمال عبد الناصر الذي عزم بتصميم تجاوز كل الحدود، خلال النصف الأول من عمر ثورته 1952 ndash; 1961، إلى التعاون المخلص والأمين مع الغرب الرأسمالي وخاصة الولايات المتحدة بالرغم من العدوان الثلاثي والضغوطات المالية والتجارية التي مارستها الولايات المتحدة ووزير خارجيتها المغرق في السياسات الإمبريالية جون فوستر دالاس. كيف لعاقل أن يفترض أن الغرب الإمبريالي كان سيقابل عبد الناصر بالود والترحاب وهو يفك روابط مصر والبلدان العربية بأسرها مع النظام الرأسمالي الامبريالي العالمي؟! لقد قابل الغرب عبد الناصر بالعدوان الثلاثي عام 1956 وبحرب حزيران بمشاركة فعلية هذه المرة من الولايات المتحدة عام 1967.

خيار الاستقلال التام والتنمية المستقلة لم يكن خياراً حقيقياً ميسوراً أمام زعماء ثورة التحرر الوطني في العالم على الإطلاق. التنمية المتاحة كانت فقط من خلال التعاون مع المعسكر الإشتراكي الذي بحكم طبيعة اقتصاده لا يساعد على التنمية الرأسمالية مثلما كانت تخطط البورجوازية الوطنية. الخيار الآخر لم يكن خياراً على الإطلاق وهو البقاء في ربقة الاستعمار ودون مشروع وطني وانكفاء البورجوازية الوطنية انكفاءً نهائياً والتخلي عن دورها التاريخي في التنمية الوطنية.

ما نود الخلوص إليه مما تقدم هو أن الأسباب الأولية لانضواء أطياف من البورجوازية الوضيعة تحت راية الشيوعية هي أسباب غير واقعية ولا تتحقق وفق ما تفصح عنه، أي الاستقلال التام والاقتصاد المستقل. واليوم وقد أصبح الاستقلال أثراً بعد عين، والاقتصاد المستقل أضغاث أحلام، اليوم فقط، وبعد انهيار المشروع اللينيني حتى الأساس، يعود شيوعيو الأطراف ليتذكروا أنهم ما استجابوا لنداء الأممية الثالثة ومشروعها اللينيني وانضووا تحت راية الشيوعية إلا لأشواقهم الحرّى للمساواة وللعدالة الإجتماعية!! ليس لدينا أي شك في صدق أشواق هؤلاء الشيوعيين الطرفيين والحجة في ذلك هي أن هؤلاء quot; الشيوعيين quot; لم يكونوا ولن يكونوا يوماً شيوعيين. فالشيوعية تتحقق فقط بعد عبور الثورة الإشتراكية التي تقوم بها البروليتاريا تحديداً. البروليتاريا لا تثور من أجل المساواة والعدالة الإجتماعية بل الأحرى أنها تثور ضد المساواة وضد العدالة الإجتماعية. تثور البروليتاريا لتحطم سائر الطبقات الأخرى من خلال تحطيم وسائل إنتاجها وليس لتتساوى مع الطبقات الأخرى. الطبقة الرأسمالية كانت قد سبقت طبقة البروليتاريا في تحطيم الطبقات الأخرى مثل طبقة البورجوازية الوضيعة الممثلة بصناعات المانيفاكتورة وطبقة الفلاحين. البروليتاريا لن تتعامل بوحشية مع الطبقات الأخرى كما تعاملت الطبقة الرأسمالية حيث ستتكفل بأسباب الحياة لكل أفراد المجتمع. في الحياة الشيوعية تنمو فقط وسيلة واحدة للإنتاج هي الإنتاج من خلال التعاون الطوعي الجماعي، أو ما يعبّر عنه ب (الإنتاج المجتمعي - Associated Production). في العبور الإشتراكي إلى الشيوعية تلغي دولة دكتاتورية البروليتاريا كل الطبقات بما في ذلك طبقتها هي نفسها.

عندما دفعت أفكار العدالة الإجتماعية والمساواة أعداداً من البورجوازية الوضيعة إلى الإنضواء تحت راية الشيوعية لم يرد في تفكير هؤلاء أن البروليتاريا ستشكل دولتها الدكتاتورية حال قيام الثورة من أجل تطهير المجتمع من نجاسات المجتمعات الطبقية (muck) وأول تلك النجاسات وسائل الإنتاج البورجوازية والتي تعتمدها البورجوازية الوضيعة. ولم يرد في تفكيرهم أيضاً أن تلك الدولة الدكتاتورية ستنحل وتتلاشى بعد الإنتهاء من عبور برزخ الإشتراكية الفاصل بين عالم الرأسمالية وعالم الشيوعية. لم يرد في تفكيرهم كل هذا وذلك لأنهم ليسوا ماركسيين بداية وليسوا شيوعيين، ومن هنا تراهم اليوم يتنكرون لدكتاتورية البروليتاريا التي اعتبرها كارل ماركس الأداة الوحيدة للثورة الإشتراكية مؤكداً في نقده لبرنامج غوتا أن لا ثورة اشتراكية بدون دولة دكتاتورية البروليتاريا.

من السخافة بمكان أن يفترض شيوعيو البورجوازية الوضيعة في الأطراف قيام العدل والمساواة في المجتمع الشيوعي. فلكي يقوم العدل والمساواة في المجتمع لا بد من أن يتواجد هناك معايير ثابتة لهاتين الحالتين، كما لا بد من أن تتواجد القوانين المتعلقة بحدودهما المرعيّة وأن تكون هناك دولة ذات سلطة قادرة على تنفيذ القوانين. في الشيوعية ليس هناك من معايير للعدالة أو للمساواة وليس هناك من قوانين تحددهما وليس هناك من دولة أو سلطة مكلفة بتنفيذ القوانين. لا شيء من كل هذا فكيف سيؤتى بالعدالة والمساواة لهؤلاء القوم من البورجوازية الوضيعة غير الشيوعية؟

في الشيوعية يتساوى الأفراد ويتعادلون اجتماعياً عند درجة الصفر فقط. فالفرد الذي يستهلك مثلاً خمسة قمصان سنوياً يتساوى ويتعادل مع الآخر الذي يستهلك ثلاثة فقط. حيث يغيب قانون القيمة الرأسمالية غياباً تاماً في الحياة الشيوعية وبذلك تتساوى القمصان الخمسة مع الثلاثة لأن كل طرف من الطرفين يساوي صفراً. أولئك الذين استولت على عقولهم مصفوفات القيم والحقوق البورجوازية لن يصدقوا أبداً أن مختلف الحاجيات في الحياة الشيوعية ستغدو بلا قيمة رأسمالية على الإطلاق، لكنهم سيغيرون قناعاتهم بعد أن يتأكدوا من أن كافة أفراد المجتمع الشيوعي القادرين على العمل سيبكّرون كل صباح إلى أعمالهم طوعاً ودون أية أجور ؛ فالعمل هو وحده ما يحقق الذات الإنسانية، الذات التي امتهانها بتحويلها إلى نقود، أو مقارنتها بالذوات الأخرى، يعتبر جريمة بحق الإنسانية.

ما أبعد شيوعيي الأطراف عن الشيوعية وعن الماركسية!!

فـؤاد النمري
www.geocities.com/fuadnimri01