يرصد من طرفٍ خفيّ quot;الحدَثquot; فيكتب عنه من زاوية مختلفة، هذا هو quot;أدونيسquot;، حيث لفتت نظري مقالته في صحيفة الحياة الخميس 4- أيلول، وفي زاويته الأسبوعية quot;مداراتquot; وقد تضمن مقالته نقداً لبعض ممارسات الكتّاب والمثقفين. عنون زاويته بـquot;مظلّة لوردة أرهقها العطشquot;، وجاء في صلبها نقد النواح العربي الذي يمارس باستمرار من قبل بعض الكتّاب والمثقفين على رحيل زعيم أو كاتب أو شاعر، أدونيس كتَب:[quot;آخر القادة العمالقةquot;، quot;آخر الساسة العمالقةquot;، quot;آخر الشعراء العمالقةquot;..الخ، أوصاف يطلقها بعض الكتاب العرب على أشخاصٍ عرب، لا في أثناء حياتهم، بل بعد موتهم. هكذا لا يعيش العرب إلا بين quot;الترمّلquot; و quot;اليتمquot; أليس إطلاق هذه الصفات هو الآخر جزءاً من ثقافة الخلافة التي لا تزال تجرر أذيالها، أو لعله يكون نوعاً من امتداح الذات (في علاقتها بالممدوح) أو نوعاً من تسويغ quot;العبودية المختارةquot; (في انسياق الشخص الواصف انسياقاً أعمى وراء الشخص الموصوف)، أو لعله قد يكون على الصعيد الميتافيزيقي نوعاً لا شعورياً من إنكار البداهة المبتذلة التي هي ظاهرة الموت، أو الهرب منها، في استسلامٍ وثوقي لوهم خلود على الطريقة الدينية. يا لهذا الوعي quot;العملاقquot; في مثل هذه اللغة الواصفة quot;العملاقةquot;].
فهو يعيب في نصه السالف ظاهرة quot;البكاءquot; التي يجيدها الكاتب العربي، فما إن يموت كاتب أو شاعر حتى تسيل الأقلام صارخة باكية بعد طول جفاف، يذرفون الدموع والأحزان، تنقلب الصحف إلى quot;حسينياتquot; وتبقى القنوات حبيسة quot;الموتquot; يعيب أدونيس على الكاتب العربي وقوعه المستمر في فخ الخوف البشع من quot;المصيرquot; الذي يترجم على هيئة quot;رثاءquot; لميّت بينما هو رثاء للذات. يذكرني كلامه هذا بكلام لعبد الرحمن بدوي حينما وصف الشعب العربي بأنه quot;مغرم بالسير وراء الجنائزquot; وقد أحسن الروائي quot;حنّا مينةquot; إذ طلب من العرب أن يتقبلوا موته بهدوء إن هو مات، لقد خاف على آذاننا من quot;الصراخquot;.إن الموت هو quot;المصيرquot; المحتوم فلماذا هذا الصراخ المستمر كلما مات كاتب أو شاعر؟ في ثقافتنا العربية يكتسب الشاعر صفات quot;النبوةquot; فيصبح توجيه النقد له، أو لشخصه من quot;الكبائرquot; وانتقاد فيلسوف أو كاتب أو صحافي أهون من انتقاد شاعر، لقد منح quot;اللاوعيquot; العربي كل quot;الشعراءquot; صفة النبوة، فأصبح كل نقدٍ يوجه إلى quot;الشاعرquot; من quot;الكبائرquot; وأحيل هنا إلى فكرة الكاتب السعودي عبد الله الغذامي حول quot;شعْرنة الثقافة العربيةquot; فهي من الأفكار الهامة في تحليل هذا الوضع البائس، (انظر كتابه النقد الثقافي).
في نصٍ آخر يكتب أدونيس: [عجباً يزدهي بمجرّد التوقيع على بيانٍ ضد سلطة، دفاعاً عن مضطهد أو انتصاراً لمعتقل. لكنه لا يفعل شيئاً، أيّ شيء، من أجل تفكيك بنية الحياة ذاتها، الحياة المعتقلة على جميع الأصعدة، من الألف إلى الياء].
في نصه هذا يشرح حجم التوتر السائد والمرَضي بين quot;المثقفquot; وبين quot;السلطةquot; والتوتر هذا لم يُبن على تصوّر علمي لمعاني سياسية، وإنما يأتي في إطارٍ quot;نضاليquot; ضيّق، حيث يضجّ المثقف إذلالاً لمجتمعه، كلما وقّع من أجلهم على بيان! وكأن توقيعه للدفاع عنهم يخوّله لاستعبادهم، وهذا هو واقع المثقف العربي المسكون بالنضال حدّ الهوس، وهي نضالات مفرّغة من الأبعاد المعرفية والجذرية، لذا تأتي محدودة وغير مستوعبة للواقع والعصر، فهو عدوان صبياني على سلطة تتمتع بتأييد الأغلبية، ثم يأتي ليناضل سياسياً ضد quot;ثقافةquot; تتمتع أيضاً بشعبية كبيرة.
الخطأ أن المثقف يريد هدم الثقافة بمعاول quot;السياسةquot; وهذا استبداد وانقلاب على الأدبيات المعرفية والثقافية، حيث تفرض بعض الأفكار على مجتمعات لا تعرف quot;طبيعة تلك الأفكارquot; ومن دون حتى أن يوسعها شرحاً وإيضاحاً، وكل ممارسة لفرض أي فكر عبر البوابة السياسية فعل quot;استبداديquot;. وكتابة أدونيس تصب في إطار ضرورة quot;تفكيكquot; البنى المغلقة من جوانبها الثقافية، أما الممارسات النضالية ضد quot;السلطاتquot; فهي quot;فتوةquot; من الجانب الاجتماعي، لكنها ممارسة استبدادية من الجانب الأهم وهو جانب quot;المعرفيquot; الذي يجب أن يكون هو الهاجس لدى المثقف. وهو ما يمكن أن يجنيه المثقف حينما يعكف على quot;أبحاث علميةquot; تساهم في فك المستغلقات بدل الانشغال بالشتائم ضد السلطة والسياسة، كما أن الفلسفات الحديثة وبالذات فلسفة الفرنسي quot;ميشيل فوكوquot; أثبتت أن السلطات ليست سياسية فحسب، بل تتوزع، فالسلطة موجودة في كل الطبقات الاجتماعية والحياتية. أدونيس يعيد ترتيب الأولويات التي نشأ عليها المثقف من دون أن يراجعها، ربما يكون الخلل في quot;ذواتناquot; وفي quot;وسائل التفكيرquot; تلك هي المراجعة الأهم.
فهد الشقيران
كاتب سعودي
[email protected]
التعليقات