لم تكن الأيام والأسابيع القليلة الماضية، وبما حفلت به من تطورات وأحداث، إلا تتويجاً لسلسلة طويلة من سياسات ضبط النفس، والثبات والصبر، والنجاحات والاختراقات كان quot;النظام السوريquot; قد حققها وعلى أكثر من صعيد محلي، وإقليمي، ودولي. ويندرج هذا الكلام فقط في إطار القراءة والرؤية الواقعية والعملية للأحداث، وبعيداً عن أية أوهام ورغبويات وأحلام يقظة تنتاب البعض، أو حملات تهويل وتهويش وتضليل دأبت معظم فصائل المعارضة السياسية على تبنيها ولكن لا يمكن التعويل عليها في عالم السياسة. فالنظام، وبشديد التكثيف والاختزال، والجرأة أيضاً، ليس على تلك الدرجة من الهشاشة والهزال والتهالك والضعف والتفكك، التي حاولت وتحاول أن تصوره بها وتقدمه للرأي العام المحلي، هذا إذا سلمنا بوجود رأي عام، وإجماع وطني حول ما يسمى بالمعارضة السورية. وإن اختلاق وفبركة الأحداث وقراءتها رغبوياً، والبناء عليها وفق ذاك، لا يمكن أن يفضي إلى أية نتيجة.
وقد كان رأينا، دائماً، هو عدم الانجرار والانسياق وراء رغبويات وتحليلات وتعميمات فضفاضة لا سند واقعياً لها، ولا تغني ولا تسمن من جوع، وضرورة عدم ربط أية عملية تغيير مأمولة بسياقات غير وطنية. وحرّي بالجميع، ولكل من يتنطع للشأن العام، النظر للواقع بعين بصيرة، وواقعية وعقلانية، أكثر مما ظهر وبان حتى الآن، وعدم القفز إلى استنتاجات مسبقة، واجترار ذات الخطاب، وإعطاء تصورات جاهزة عن ديناميكية سياسية تتفاعل باستمرار وتفرز الكثير من المعطيات التي لا يمكن إحاطتها والتحكم بها.
فالأمور ليست البتة، بذاك السوء والتهافت، أو على تلك الصورة والقدر والشاكلة والنمطية الساذجة التي يحاول معظم من يتناول الشأن السوري أن يقدمها. فهناك الكثير من التعقيدات والحسابات والأوراق والاعتبارات والقراءات وquot;الماورائياتquot; التي يجهلها كثيرون حين مقاربتهم للشأن السوري رغم أن إمبراطوريات إعلامية ومنابر فضائية وقفت وراءهم ووفرت لهم الفرصة الكافية للإدلاء بآرائهم وتصوراتهم التي لم تكن موفقة حتى الآن على الأقل. فمن يحاول قسر التفكير والرأي، وتجيير الأحداث والتطورات باتجاه ما، وتضخيم أي حادث، وبما يتناسب مع هواه الشخصي، ومع غايات ودوافع قد تكون شخصية وذاتية وغير موضوعية في كثير من الأحيان، يكون بمثابة من يمارس خداعاً وتضليلاً عاماً، عن قصد وسابق تصميم، وسوء نية وطوية، ويحاول أن يوحي لكثيرين، وعن خبث ودهاء ومكر شرير، بواقع مغاير لما هو الواقع الحقيقي. ومن يقرأ خطاب المعارضة السورية السقيم، مثلاً، من السذج ومساكين وأيتام السياسة وأبناء السبيل والعاملين عليها، سيعتقد أن النظام قاب قوسين أو أدنى من السقوط، أو على أبواب هزيمة تاريخية ستطيح به وبجبروته، وتنهيه إلى أبد الآبدين، وهذا ما ينافي ويتناقض، تماماً، مع ما هو قائم على أرض الواقع. ويخطئ من يظن أن حملات الافتراءات والتضليل قد تكون سلاحاً فعالاً وناجعاً في عملية يقال عنها أنها للتغيير الوطني. فالغوبلزية الإعلامية، التي تمارس اليوم، ويشارك فيها بكل أسف بلاشفة سابقون، كانت قد هزمت، وفعلت فعلها سابقاً، بأصحابها فقط، كهتلر وأركان نظامه النازي.
والذين راهنوا على تغيير quot;سلوك النظامquot; حتى من وجوه النظام الدولي، هم الذين غيـّروا من سلوكهم، ومن حاولوا quot;عزلquot; النظام هم الذين أضحوا معزولين اليوم، ويراقبون المشهد بمزيج من الذهول، والدهشة وعدم التصديق، هذا سياسة وكلام واقعي وليس افتراضاً أو تخيلاً وهمياً. وذهبت كل تلك التحليلات والدراسات quot;الإستراتيجيةquot; غير الموفقة أبداً إلى مدافن التاريخ، إن لم نقل غيرها. ولم نطلق هذا الكلام اليوم فقط، وهكذا، وعلى عواهنه، واحتفاء بأحد أو لأحد، بل كان في أوج احتدام الهجمة الشرسة ضد quot;النظامquot; عربياً ودولياً، وحين كان يتقاطر المتقاطرون، أو المضلـَّلـُون، لحجز أماكن وهمية لهم في مرحلة ما بعد سقوط النظام، لكن ما حصل أن منهم من سقط، ومنهم من هو على وشك السقوط التاريخي المهين، وما بدلوا تبديلاً. فحين اعتبر أحدهم أن مسألة سقوط النظام هي مسألة أيام وليال، وقبيل نهاية صلاحية جواز سفره، يجب أن يكون عند كلامه، وأن يحترم هو وغيره عقول الناس، ويتحلى بالشجاعة والرجولة الكافية للتراجع، وإلا توجب عليه الاعتذار من كل أولئك المساكين والبسطاء الحالمين الذين ورطـّهم بمواقف ليسوا أهلاً لها، ولم يكونوا يوماً في وارد اتخاذها لولا حملة التضليل الكبيرة التي ما زال البعض يصر على أن يركب رأسه ويسوق لها ويقنع بها الآخرين.
فقد ذهلت تماماً، وعلى سبيل المثال لا الحصر، حين استمعت لتصريحات الدكتور كمال اللبواني، عجل الله في فرجه، وهو في أحضان المحافظين الجديد، وكأنه واحد منهم، كجون فوستر دالاس، مثلاً، أو الجنرال ماك آرثر في أوج امتداد الشوفينية المكارثية، وهو يتهدد ويتوعد النظام quot;المفتريquot; بالويل والثبور وفظائع الأمور، وقلت بأن مساً من quot;الأحلامquot; الوردية، وفي إطار سياسة التضليل إياها، لا بد وأن يكون قد أصاب الرجل. وها هو اليوم يعاني ما يعانيه، وبكل أسف وأسى، بسبب من أولئك التضليليين الذين تاجروا بأحلام بعض من مراهقي السياسة وصبيانها المساكين. وصعقت وأنا أقرأ أيضاً، للأستاذ ميشيل كيلو، عجل الله فرجه مع الآخرين، تلك التخرصات الطائفية، والمواقف التحريضية، والاصطفافات السياسية السوريالية التي بنيت في الهواء وعلى رمل سياسي. وهذا ما حصل مع كثيرين من المتورطين الذين وجدوا أنفسهم لوحدهم في العراء في مواجهة غير متكافئة، ولا طاقة لهم بها، وتورطوا، أو لنقل ورطوا، تماماً، بناء على أوهام وتصورات لا تنم البتة على عقلانية سياسية كما أسلفنا، أو قراءة ثاقبة ومتأنية لواقع سياسي معقد يتطلب بالتأكيد حلماً، وبعد نظر، ورؤية أعمق بكثير مما توفر حتى وقت قريب.
والطامة الكبرى كانت في تقديم إعلان العار القندهاري المشؤوم ( هكذا سميناه ودون خوف أو وجل أو مراعاة لمشاعر المضللين التضليليين وفي أوج الحملة على النظام والذي كان الإعلان أحد تنويعاتها)، وكان بمثابة إعلان حرب على الطيف السوري من قبل من ظن أنه قد صار قاب قوسين أو أدنى بتغيير جذري وجوهري، لكنه تضليلي، للواقع السياسي السوري. ويأسف المرء، أشد الأسف ويصاب بإحباط شديد لكل تلك الحملات الدعائية المنسقة التي يتبناها بعضنا السوري، وتتناغم، وبكل أسى، مع مشاريع وأهواء إقليمية لا علاقة لها البتة بما هو مطروح من هم وشأن وطني، وانخرط فها كثيرون عن وعي، أو جهل مطبق مبين.
وهذا الكلام، اليوم، وبكل صدق وتجرد، ليس للتشفي، والشماتة بأحد، كلا وحاشا، وليس موظفاً ليصب في طواحين أحد على الإطلاق. غير أن الواقعية والعقلانية والقراءة المنطقية للمعطيات، وصدق القراءة والتحليل هي أهم ما تفتقده المعارضة التي تسلحت بأسلحة التضليل والتهويل والعداء الشخصي والحقد الدفين في تعاملها مع شأن جد وطني. وعلى من يتباكى، ويلطم، ويشد الشعر، اليوم، حزناً وفراقاً وكمداً على أولئك المتورطين وزج بهم في محنتهم وكان مسؤولاً عنها بشكل ما، عليه أن يقدم رواية وقراءة سياسية أكثر عقلانية، ومنطقية، ومغايرة تماماً وبكل موضوعية وحياد ونزاهة وشجاعة الشجعان والإقرار بالهزيمة والاعتراف بها، وربما تقديم اعتذار شخصي، يعقبه بانسحاب نهائي من الميدان السياسي. وإن عدم فعل ذلك لا يدخل إلا في إطار التناحة، والحماقة المتعمدة، والإصرار على المضي في تبني نفس تلك الخيارات والأدوات الكارثية البائسة التي أدت إلى تفسخ وانحلال بنيوي، وخيبة أمل مريرة، وتوهان، ومراوحة في غير مكان.
ملاحظة جد هامة، ولمن لا تزال الأوهام والتصورات تعشش في رأسه: لن تروا هذا المقال لا في منابر المعارضة، ولا منابر المخابرات، على حد سواء.
نضال نعيسة
[email protected]
التعليقات