1-
كيف يمكن للعربي أن يخرج من غلواء سجنٍ كبير؟ بينما هو محارب على كل الجبهات، بين quot;سياسيquot; يطالبه بأن ثبت صلاحة quot;وطنيتهquot;، ومن جهة أخرى شيخ يقرعه بالوعيد والتهديد أن يثبت صلاحة quot;دينهquot; وبين مثقف وكاتب يطلب منه أن يثبت صلاحة quot;عقله ووعيهquot; بين تلك الحملة الشرسة من القوارع والنواهي التي تهبط عليه من كل حدبٍ وصوب، يجد الطريق الآمن للخروج من تلك الدوامة في أمورٍ كثيرة، من بينها التسكع في المقاهي كما هي الحالة العربية الاجتماعية، حيث ينفخ العرب من أفواههم من السجائر والشيش ما يكفي لخنق أممٍ كاملة، إنه هروب المرتبك المهزوم، الذي لا يستطيع أن يميز بين تلك الحجج المتناثرة عليه من قبل السلطات المتنوعة التي تتخذ من الإعلام مسرحاً لترويج تعابيرها، فهو يقنط من هذا الواقع البائس ليجد في quot;التسليةquot; خير quot;بنجٍquot; يمكّنه من التخلص من غلواء التقييم والاختيار بين تلك الأصوات المتنابحة، والمتناحرة.

2-
جاءت الثورة الفضائية لتسد العجز البصري الذي عانى منه المشاهد طويلاً، حيث ارتهنتْه القنوات الحكومية طويلاً، وأجبرته على مشاهدة الزعيم وهو في أحوالٍ مختلفة، وفي أوضاعٍ متنوعة، اضطره الشحّ الإعلامي أن يتسمر أمام التلفزيون الرسمي الذي يعْرض له قبل أن ينام نشرة الأحوال الجوية quot;لليوم الفائتquot;! الثورة الفضائية علّمت هذا المواطن المغلوب على أمره أن في العالم عوالم أخرى، وأنه هو من ضمن فئة عالمية اتفق على تسميتها مجاملةً بـquot;العالم الثالثquot; أو الدول التي لديها quot;نية النموquot; لكنها لم تنمُ حتى الآن لسرّ لم يُكتشف بعد (المثقف منذ قرن يعكف في مكتبته بنظارته المقعرة يبحث عن سر تقدم الغرب وسر تخلفنا) عزاء هذا المواطن quot;أن الأعمال بالنياتquot; ومنذ ذلك الحين، وكل العرب لديهم quot;نيةquot; خنق إسرائيل وإغراقها في البحر، ولديهم quot;نيةquot; النهوض، والابتكار والصناعة والزراعة ..الخ من النوايا الحسنة التي يريدون تفعيلها منذ زمن بعيد، تشهد على هذا كتبهم وتصريحات زعمائهم وأحلامهم.
الثورة quot;الغنائيةquot; أو quot;الظاهرة الاستعراضيةquot; جاءت في وقتها حينما قررت quot;نادين لبكيquot; ذات مساء بعد أن قرضت ظفرها الأيمن، أن تتيح المجال لنانسي عجرم أن ترقص خلف الكاميرا، بكلماتٍ -صحيح أن لن تُحرج المتنبي وعمرو بن كلثوم وقطري بن الفجاءة- لكنها ستسعد العربي القابع في مقهاه هرباً من quot;السياسيquot; و quot;الشيخquot; و quot;المثقفquot; ومن quot;زوجتهquot; بطبيعة الحال، بعد ذلك الكليب تحديداً انفرط العقد، وأصبحت القنوات العربية قنوات quot;استعراضquot;، quot;تمت الهجرة الجماعيةquot; التي شهدها الفن العربي، حيث جاءت كارول سماحة من أقصى quot;المسرحquot; تسعى، أما هيفاء وهبي وسيرين عبد النور ومايا نصري فهربن من مهنة quot;عرض الأزياءquot; -التي تطعمهن فقط أرغفة الخبز- إلى مهنة الاستعراض الغنائي التي تدرّ أرباحاً طائلة، فمن يستطيع إيقاف هذا الزحف مادام العربي يفتخر بفحولته الضاربة التي لا يمكن كشف أسرارها إلا بهذه النوايا الطيبة التي تبرز من بين حفلات الاستعراض الدائمة المتوافقة مع quot;إرادة الهروبquot; التي هيمنت على المجتمعات العربية التي تبْهتها الأسئلة والقوارع ولا تريد أن تتغير.

3-
المنتِج العربي لم يهمل هذه الفرصة، فتراه يبحث في متطلبات العربي القابع في مقهاه، يبحث له عن مسلسل درامي يغْرق فيه حتى أخمص قدميه منتظراً quot;الحلقة الأخيرةquot; التي اعتاد المنتج العربي أن يكتنز العقدة المُلْغِزة في جوفها، لذا نجد المسلسلات العربية الآن تجيد quot;النواحquot; والصراخ ومشاهد quot;المصارعة الحرةquot; فقط تحتاج إلى أن تقتطع من وقتك بضع دقائق لتشاهد quot;شارةquot; أي مسلسل عربي-وخليجي بالذات- لتعرف كمية الدموع والضربات المتنوعة والمتوزعة والصفعات المتتابعة التي يود المنتج أن يبهر بها عين وقلب المشاهد.
وكم ساءني فعْلُ منتج وممثل وهو quot;نايف الراشدquot; الذي قام ndash;على طريقة الزعامة العربية-بدور (البطل، والمنتِج، والكاتب) في آنٍ واحد في مسلسل quot;شر النفوسquot; الذي يعرض حالياً، حينما قام ببث كل هذا الكم من البشاعة والتوحش عبر مشاهد مليئة بالسحر والشعوذة والخرافات والأكاذيب، مستعيناً بكثافة مشاهدةٍ ربما يسبّبها quot;غيبيةquot; الموضوع الذي يطرحه وهو quot;السحرquot; وربما يسببه على نحوٍ أوضح تواجد وجوه بعض الممثلات الحسناوات من أمثال الفنانة الكويتية quot;أمل العوضيquot; المحْتَكرة من قبل شركته.
نفس هذا المنتِج سبق وأنتج المسلسل quot;صاحبة التميزquot; الذي ضرب أبرع الأمثلة بالفقر في الإخراج والإنتاج والكتابة، إن هذا العبث الذي يمارسه المنتج من أجل قبض كمٍ هائلٍ من المبالغ على حساب إثارة مصطنعة قوامها quot;السحرquot; لدليل واضح على حجم التودد الذي يمارسه المنتج من أجل إتاحة المجال أمام العربي القابع في مقهاه أن يطّبع مع كل quot;الخرافاتquot; والأكاذيب التي يؤمن بها، إنه افتعال مضحك لصناعة quot;الشرquot;، إنه الهراء المستديم الذي يصبغ ألوان الحياة الفنية والفكرية والثقافية والاجتماعية والذي تسببه هذه quot;الخرفنةquot; المنظّمة من قبل بعض quot;التجارquot; الذين يسوقون للتخاريف، ويريدون أن يثبتوا عبقريات زائفة حينما يخدعون المشاهد زاعمين استطاعتهم أن يخرجوا من قبعاتهم quot;بعض الأرانبquot;.!


فهد الشقيران
كاتب وصحافي سعودي
[email protected]