على الرغم من تعدد التفاسير التي تناولت حركة التاريخ واهميتها يبرز تفسيرالمؤرخ الشهير ارنولد توينبي كاكثر هذه التفاسير دقة وشمولية لاسيما في ارتكازه على مبدأ الحافز والاستجابة في دراسة التطور العالمي مبينا ان شكل الاستجابة لدى الحضارات كان في الغالب الاساس في تقريرقدرتها على المطاولة.

وكلما كانت الحضارة على درجة عالية من الاستجابةكلما كان وجودها اكثر امنا واستقرارا وهو ما حصل بتقديري ابان العصورالوسطى عندما حاولت الحضارة الاسلامية الخروج من قوقعتها البدوية الىفناء الحوار والانفتاح الا انها في الغالب لم تصمد امام التحديات التي واجهتها من الداخل والخارج لتغدو استجابتها على اسوأ حال وبالتالي اخذت تنتكس وتتقوقع على ذاتها في محاولة للدفاع عن هويتها ازاء تحدي الاختراق والذوبان المحدق بها.

الا ان هذا الامر لم يكن ناجحا تماما امام حضارةبمثل حيوية الحضارة الغربية استطاعت ان تطوع التكنولوجيا لخدمة رقيهاالحضاري ونموها الاقتصادي ما جعل الحضارة العربية والاسلامية عرضة للاختراق والوقوع تحت وهج الحضارة الغربية وسطوتها الساحقة في اكثر من مجال ما دفع هذه الحضارة الى ابتداع آلية ثقافية وسلوكية للدفاع عن الذات تمثلت في معاكسة تيار الحضارة الغربية لايقافه والانقضاض عليه كسبيل لاعادة التفوق الاسلامي من جديد.

وامر كهذا لم يحصل بين ليلة وضحاها بل جرى نموه على فترات ومراحل مختلفة وبنسق فقهي متسلسل ومع ان اولى المراح لقد واكبت بدء الدعوة الاسلامية الا ان نموها الخطير قد استكمل ابعاده في هذا العصر بعد بضعة عشر قرناً من ذلك وبما ان المنطق الاساس الذي انطلق منه الاعتداد بالثقافة ديني محض فان اول ركيزة لهذا المفهوم مثلتها تلك العبارة التي يرددها المسلمون دائما (الله معنا) وكأن الله لن يكون الا معنا ولن يكون مع غيرنا يوما وما دام الامر كذلك لن يكون الآخرون الا اعداء الله بغض النظر عن طبيعة هذا العداء وشكله.

ولذلك من واجب المسلمين كما يعتقد هؤلاء محاربة الاخرين في كل زمان ومكان واذا لم تكن المحاربة التقليدية ممكنة فالبديل في الارهاب والتخريب لانه السبيل الوحيد لمواصلة مفهوم المحاربة وبالتالي فان لهذا البديل اساساً فكريا تطوع فيما بعد ليغدو اساساعقليا يعادل الوجود فاذا لم يكن بمقدوري ان افكر لاكون يجبعلي ان اخرب واقتل لاغدو كذلك لان التفكير وسيلة والوجود غاية وبما انغايتي هي الوجود فما علي الا ان ابتدع وسيلة اخرى ترسخ وجودي وليس هناك افضل من التخريب في عرف من يمتهنه لاننا في الواقع نعيش ما يشبه صراعاصوليات كما يعبر (طارق علي) مع ان هذا الامر قد ينطبق بشكل خاص على حضارتنا دون غيرها لانها الحضارة الوحيدة التي تعيش حالة اغتراب واسع المدى عن الواقع.

وبالطبع فان (اغتراب الانسان يحصل - كما يقول غرامشي -عندما يبدأ الناس الاعتقاد ان البنى الايديولوجية المتأصلة في حياتهم الاجتماعية والسياسية هي انعكاس لنظام طبيعي سرمدي وبالتالي لامجال لتغييره).

وما ايماننا بان حضارتنا هي حضارة الله وحضارة الاخرين هي حضارة الشيطان الا تمثيل عملي لذلك بدليل مقولة سيد قطب عن الغرب الجاهلي هذا الغرب الذي يمثل امتدادا لواقع الجاهلية الذي حاربه الاسلام في بدء ظهوره وبما ان الجاهلية التي يقصدها سيد قطب هي جاهلية روحية فان التبشير الذي يريده لهذا الغرب هو تبشير روحي ايضا اي ان الحضارة التكنولوجية لن تاخذ مشروعيتها الا في ظل الولاء لامة الاسلام وبغير ذلك هي اداة بيد الشيطان لا غير.

والى هنا تكتمل مشروعية التخريب في الحضارة العربية الاسلامية ليصبح لهذه المشروعية كوجيتو خاص مضمونه (انا اخرب اذن انا موجود) بموازاة كوجيتو الغرب (انا افكر اذن انا موجود) وبالطبع بني هذا الكوجيتوعلى تاريخ طويل من التخريب غير الممنهج امتد عبر الحقب الاسلامية في حرق الكتب وتدميرالبنايات وقطع الاشجار وقتل الناس والتمثيل بجثثهم وسبي ذراريهم ونهب اموالهم حتى اصبحت هذه الممارسة مألوفة وشائعة في الواقعالاسلامي وتراثا يستشهد به الارهابيون الجدد لتسويغ اعمالهم الى جانب مااصطلحوا عليها (آيات السيف) التي اولوها بما بما يوافق منهجهم واهدافهم لتغدو هذه الايات بعرفهم ايات للقتل والتخريب وتسويغا لكوجيتهم الجديد الذي اخذ مفعوله من خلال الارهاب الذي يهدد العالم الان والذي امتد ليشمل حتى المسلمين انفسهم لان التخريب ليس ايديولوجية حتى يحدد باتجاه ما انما هو نزعة يمكن ان تمتد لتشمل كل شيء انطلاقامن الواقع الاسلامي المنقسم اصلا.

واذا كان المسلمون قد حاربوا بعضهم مرارا وسفكوا الكثير من الدماء فان حالهم الان مشابه حتى انهم قتلوا في بلاد الاسلام اضعاف ما قتلوا في اماكن اخرى وخير دليل على ذلك ما يفعله هؤلاء في العراق من اعمال يندى لها الجبين وتقشعر لها الابدان.

ولذلك ليس امامنا الا ان نقر بهذا وان ندينه كسبيل لمواجهته والقضاء عليه لان تجاهله والسكوت عنه هو مشاركة في اثم يهدد البشرية جمعاء.

باسم محمد حبيبب
[email protected]