إعداد عبدالاله مجيد: فاز فيلم (هيرت لوكر) الذي يدور حول حرب العراق بجائزة احسن فيلم في مهرجان الاكاديمية البريطانية لفنون السينما والتلفزيون (بافتا) يوم الاحد وهي الجائزة السادسة التي يقتنصها الفيلم منخفض الميزانية في المهرجان. وتفوق (هيرت لوكر) على فيلم (افاتار) الذي انتج بتقنية ثلاثية الابعاد ولقي اقبالا شديدا من الجمهور ورشح مثله لثمانية جوائز في مهرجان بافتا.
ومن المعلوم أن اكاديمية الفنون والعلوم السينمائية رشحت أيضا فيلم The Hurt Locker من اخراج كاثرين بيغلو لتسع جزائز اوسكار. وتدور قصة هذا الفيلم الذي يمتحن قوة الأعصاب حول فرقة اميركية لإبطال المفرقعات تؤدي مهمتها المحفوفة بالاخطار في بغداد. ويلاحظ الصحفي والناقد السينمائي لصحيفة نيويورك تايمز انتوني اوليفر سكوت الذي وصف quot;ذي هيرت لوكلرquot; بأنه احسن فيلم اميركي عن حرب العراق، ان هذا الاعتراف الذي اضفته الأكاديمية على الفيلم جاء في اوانه ومتأخرا على السواء، بعد سبع سنوات من الحرب في العراق وثماني سنوات في افغانستان وعشرات الافلام الروائية التي تتناول الحربين بتطير احيانا وبرمزية احيانا اخرى. وأخيرا توجهت الانظار الى دراما قوية لا تهادن عن حقائق الحرب على الأرض (الى جانب كونها فيلما فريدا من افلام الأكشن ايضا).
منذ العرض الأول في مهرجان تورونتو السينمائي الدولي عام 2008 نال فيلم quot;ذي هيرت لوكرquot; ثناء النقاد لأسباب متعددة بينها معالجته الحرب معالجة بعيدة عن السياسة. وفي مقابلة تلو الأخرى اصرت المخرجة بيغلو وكاتب السيناريو مارك باول الذي رفد مضمون القصة بخبرته المكتسبة من العمل صحفيا في بغداد، على ان الفيلم لا يتخذ موقفا من الحرب الاميركية في العراق يحدد بؤرة تركيزه بدائرة الرجال الذين يخضون هذه الحرب.
يمكن الجدل حول نجاح الفيلم في الالتزام بتأكيد هذه الحيادية ولكن نيات الفيلم في البقاء بعيدا عن السجالات الشائكة بشأن السياسة العسكرية الاميركية، ربما كانت آخر ما يميز هذا الفيلم. وحين يتعلق الأمر بالعمليات العسكرية الجارية في القارة الآسيوية فان اعلان كارل فون كلاوزفيتس بأن الحرب استمرار للسياسية بوسائل أخرى هو احدى الرسائل ـ وربما كليشهات اخرى ـ التي قرر السينمائيون الاميركيون تجاهلها من حيث الأساس. فقبل ايام على اعلان ترشيحات الاوسكار قررت هيئة تحكيم في مهرجان صندانس السينمائي منح جائزة كبرى الى فيلم quot;ريستريبوquot; الوثائقي من اخراج تيم هيذرينغتن وسيبستيان جونغر، الذي يتابع حياة جنود اميركيين خلال سنة مهلكة في منطقة خطرة من افغانستان. وبعدما لفت المخرجان على موقع الفيلم الالكتروني الى تسييس الحرب في افغانستان، دافعا عن قرارهما عدم الانخراط في سجالات سياسية بمفردات قوية. وكتب المخرجان ان من المهم فهم خبرات الجنود بصرف النظر عن المعتقدات السياسية. quot;فالمعتقدات السياسية طريقة لتفادي النظر الى الواقع. وهذا واقعquot;.
يقول الناقد سكوت ان هذا الطرح مثير لرؤية الواقع الذي يصوره فيلم quot;ريستريبوquot; ولكن القول بأن الواقع يعلو على اي تفسير له والتلميح الى ان تصوير القتال تصويرا مباشرا بلا اي مؤثرات وسيطة، هو اصدق تمثيل للحرب انما هو طرح قابل للنقاش ومعهود في آن واحد. فان اول فيلم وثائقي مهم عن الجنود الاميركيين في العراق ـ quot;غانر بالاسquot; Gunner Palace الذي صوره المخرجان مايكل تاكر وبترا ايبرلاين في عام 2003 مع بداية اعمال العنف التي تسود quot;ذي هيرت لوكرquot; ـ كان هو الآخر شريطا مؤثرا ينحاز الى جانب الخبرة المباشرة ضد المناظرة الايديولوجية، وحذا حذوه تقريبا كل فيلم روائي ووثائقي منذ ذلك الوقت، كما يقول سكوت. وشهد العام الماضي فيلمين عن عودة جنود من الحرب، لقيا اعجاب النقاد هما quot;برذرزquot; Brothers وquot;ذي ميسنجرquot; The Messenger اللذان حولا الهوة بين خبرة من قاتلوا ومن بقوا في بلدهم الى دراما نفسية وداخلية. ولكن في حين ان هذه الافلام كانت صريحة في تصويرها آثار الحرب النفسية المدمرة على الجنود وعائلاتهم فانها التزمت جانب الصمت ، كعهدها، عن معاني هذه الصدمات النفسية ودلالاتها فيما تعالت اصوات السينمائيين، كعهدهم ، في نكران وجود اي اجندة سياسية وراء عملهم.
كانت هناك اعمال شذت عن هذه القاعدة منها فيلم براين دي بالما quot;ريداكتيدquot; Redacted وفيلم بول هاغيس quot;ان ذي فالي اوف ايلاهquot; In the Valley of Elah اللذان عُرضا في خريف 2007.فهما يضعان حرب العراق موضع تساؤل، احدهما بغضب والآخر بأسى وكلاهما يفعلان ذلك بالتشديد على آثار القتال على الرجال العاملين في الميدان.
أخرى أُنتجت في ذلك العام مثل فيلم روبرت ردفورد quot;اسود مقابل حملانquot; Lions for Lambs وفيلم غافن هود quot;ريندشنquot; Rendition اللذين حاولا ان يصورا دراميا السجال الذي كان محتدما في اوساط الرأي العام وقتذاك عن عدالة السياسة الاميركية أو حكمتها. ولم يحقق اي من هذه الافلام نجاحا كبيرا سواء لدى الجمهور أو في محاولاتها الجدية الحذرة لتصوير القضايا الجيوسياسية التي أُثيرت بعد هجمات 11 ايلول/سبتمبر.
لعل الخلل يكمن في ان الافلام السينمائية، على الأقل كما تُصنع وتُستهلك حاليا ، عاجزة عن ردم الهوة بين ساحة القتال وحلبة السياسة.ومن الجائز ان الجنود الذين يشكلون الشخصيات الرئيسية في الافلام الروائية وغير الروائية ، لا يتحدثون كثيرا عن السياق الأوسع الذي يصارعون فيه من أجل البقاء وانجاز المهمة الموكولة اليهم. ولكنهم كانوا في حروب سابقة ـ اي في افلام الحرب القديمة ـ كانوا اكثر انفتاحا. فالمعروف ان البحارة وجنود المشاة في افلام الحرب العالمية الثانية كانوا فصيحين الى حد البلاغة في الحديث عن الدرس الذي سيلقنونه لكل من هتلر وامبراطور اليابان في حين ان الآهات والحشرجات في افلام ما بعد الحرب الفيتنامية كانت في كثير من الأحيان تعبر عن النظرة السوداوية والاغتراب اللذين كان جزء من تركة الحرب الفعلية والسينمائية.
حربا العراق وافغانستان تختلفان عن تلك الحروب. فهما تُخاضان بعيدا عن انظار الرأي العام الأميركي ويخوضهما بالدرجة الرئيسية جيش من الجنود المحترفين. والاحترام الذي يناله هؤلاء الجنود المحترفون ـ هذا الاعجاب هو أكثر الأوجه حضورا واقناعا في فيلم quot;ذي هيرت لوكرquot; ـ يمتد عبر الوان الطيف السياسي.بيد ان الخلاف السياسي حول الحربين كان صاخبا وبلا نهاية حتى بوجود قدر من التردد والكثير من تغيير المواقف والمراجعات مع استمرار الحربين.
قد يكون الابتعاد عن هذه السجالات طريقة للاعتراف بهذا التذبذب والازدواجية، أو ان السينمائيين إذ يدركون تقلبات الرأي العام ، يخشون إبعاد الجمهور عن شباك التذاكر، سواء أكانوا يتخذون هذا الموقف أو ذاك. أو لعل الشقة أوسع في نهاية المطاف بين المعتقدات المتعلقة بالحرب وواقع الحرب بحيث لا يمكن لأي فيلم منفرد ان يحيط بها.
تجد السياسة طريقها الى افلام مثل فيلم المخرج الاسكتلندي اماندو ايانوتشي quot;في الدائرةquot; In the Loop الذي يهجو الأحابيل الدبلوماسية هجاء مريرا بسخريته (رُشح لأوسكار احسن نص أُعد للسينما) وفيلم تشارلس فيرغسون الوثائقي المتقن quot;لا نهاية في الأفقquot; No End in Sight حول المراحل الكارثية الأولى من حرب العراق. ولكن الناقد سكوت يلاحظ ان الانفصام بين اللاعبين السياسيين في هذه الأفلام والجنود الذين يصورهم فيلما quot;ذي هيرت لوكرquot; وquot;ريستريبوquot; يبدو انفصالا مطلقا، على حد وصفه. ولعل هذا يعطي فكرة عن الوقع أكثر منها عن هذه الافلام.