صالح كاظم من برلين: يبقى تراث المخرج الكبير فرتز لانغ واحدا من أهم منابع السينما المعاصرة، وهذا لا ينطبق فقط على فلمه الطليعي quot;متروبوليسquot;، بل يشمل كذلك مجمل أعماله التي توجها بـ quot;الدكتور مابوزةquot; وquot;وصية الدكتور مابوزةquot; وquot;M مدينة تبحث عن قاتلquot;. كل هذه الأفلام ساهمت في وضع الحجر الأساس للسينما المعاصرة، وكشفت عن القدرة الإبداعية الكبيرة لهذا المخرج الذي واصل عمله لاحقا بنجاح في هوليوود، بعد أن أفلت من قبضة النازية،

مشهد برج بابل من الفيلم: حلم الطغاة الأبدي

وذلك في الوقت الذي كان فيه النظام النازي يسعى لإحتوائه رغم منع فلمه الأخير الذي كان يحتوي على إشارات واضحة في رفض التوجهات القمعية لهذا النظام. وكانت الرغبة في إحتواء لانغ وليدة إعجاب هتلر به بعد مشاهدته لفلم quot;سيغفريدquot;، إذ أسّر الى غوبلز بعد أن سالت الدموع من عينيه: quot;هذا الرجل هو الذي سيؤسس لنا السينما النازية.quot; وبالفعل طلب غوبلز من لانغ أن يتحمل مسؤولية إدارة المؤسسة السينمائية الألمانية لتسسييرها بإتجاه الإيديولوجية القومية الإشتراكية. غير أن لانغ الذي كان بعيدا عن التوجهات السياسية في حينها، تخلف عن موعده المثبت مع وزير البروباغندا غوبلز، وحزم متاعه لكي يغادر ألمانيا قبل فوات الأوان.
ويعتبر فلم متروبوليس الذي تم إنجازه في العام 1927 وذلك بتكاليف تعتبر مرتفعة في حينها (5 مليون رايخ مارك) من أوائل أفلام الخيال العلمي bdquo;Scienc-Fictionldquo;، مما جعله، رغم فشله تجاريا، عملا يحتل موقعا متميزا في تاريخ السينما الألمانية والعالمية. وكان لانغ قد وظف طاقما تقنيا هائلا، وذلك الى جانب عدد كبير من الممثلين والكومبارس، ليحقق بذلك فلما يعتبر من كافة الجوانب الفنية رائدا في مجال الحداثة، وسط تقنية عالية تجاوزت حدود المألوف في السينما الصامتة حينها. فوق هذا فأن ما كشفه الفلم عن المخاطر التي تكمن في التطور التقني العلمي بالنسبة للإنسان المعاصر يعتبر إنجازا متقدما على عصره وسابقة تؤشر الى ما تم تحقيقه لاحقا على يد ستانلي كيوبريك في quot;2001quot;، حيث يصبح الإنسان أسيرا لما صنعته يداه، حين يهيمن الكومبيوتر quot;هول 9000quot; على مصائر طاقم سفينة الفضاء.
في ميتروبوليس التي تخضع لنظام طبقي صارم يفصل بين طبقة السادة الذين يعيشون في جو من الترف والبهجة، وبين العمال الذين يخضعون لنظام صارم يسّير حياتهم وفق وتائر عمل المكائن الهائلة التي تنظم كافة جوانب الحياة في هذه المدينة تحت إشراف جو فيدرسن، وهو شخص لا يكنّ للعمال سوى مشاعر الإحتقار ولا يرى فيهم سوى أدوات لضمان الحياة السعيدة للمترفين. وفي جو يشكل مزيجا من الأسطورة وقصص الإنجيل بجزئيه بالإرتباط مع حكاية النبي موسى، يضعنا لانغ أمام علاقة حب تنمو بين إبن جو فيدرسن، وبين ماريا، تلك الفتاة التي تسكن في أحياء العمال وتبشر بقدوم شخص سيكون وسيطا بين العقل، مجسدا في نظام جو فيدرسن، وبين اليد مجسدة بالعمال المضطهدين. ولا أريد هنا الخوض في تفاصيل الفلم وأحداثه المتشعبة، حيث أن اغلب أجزائه متوفرة في quot;اليوتيوبquot;، غير أن من الضروري التذكير بأن فرتز لانغ ذكر لاحقا بأنه لم يكن في حينها على وعي بأن نهاية الفلم quot;الأخلاقيةquot; تنسجم بهذا الشكل أو ذاك مع الإيديولوجية النازية، حيث انه ومن خلال موقفه البعيد عن السياسة أنصرف الى التركيز على الجانب التقني والفني وترك مسؤولية تحقيق السيناريو على عاتق زوجته الكاتبة والممثلة تيا فون هاربو (1888-1954) التي كانت متأثرة الى حد ما بالإيديولوجية النازية، إلا أنه أصبح يدرك الآن بان المشكلة التي يطرحها الفلم لا يمكن أن تحل إلا إجتماعيا.
لقد توفرت العديد من النسخ لهذا الفلم، إلا أنها كانت دائما ناقصة، حتى تم العثور في العام 2008 في بوينس آيريس على أجزاء عديدة من الفلم كانت تعتبر مفقودة، كما تم العثور على الموسيقى التصويرية للفلم، فتمت إعادة كتابتها وقدمت في كونسيرتو في بوينس آيريس. وقد قامت مؤسسة فريدريش فلهلم مورناو بترميم الفلم من خلال إضافة الأجزاء المفقودة اليه مما جعله أخيرا quot;مفهوما للمشاهدquot;، كما يقول ايبرهارد يونكرسدورف المسؤول الإداري في المؤسسة. مؤكدا على أن ترميم الفلم هو جزء من إلتزام مؤسسته في الحفاظ على الإرث السينمائي وتوفيره للجيل الحالي وللأجيال القادمة. وسيعرض الفلم في نفس الوقت في فرانكفورت وبرلين في حفل سيجري نقله حيا من قبل تلفزيزن آرته، وذلك في 12 فبراير 2010. ومن الجدير بالذكر أن تذاكر الدخول لهذين العرضين نفذت ولم تعد متوفرة حتى للصحافة.