ماجدة داغر من بيروت: أن نقولَ شعراً في مدينة، أي أن نتسلّق القلقَ الشاهق الحارس سورها، فنَسرجَ القوافي لِفرس الغربة استعداداً لملاقاة الحنين. ذلك الحنين السّاكن أغاني المدائن، ينشده كل ّمنّا بلون قرميده وصخب شوارعه وحميمية أزقّته، وعطر نوافذه المشرّعة على الوحدة. تلك الوحدة المنتشية برائحة القمر، قمر مدينتنا الطالعة من وجدانٍ وناسٍ وهيام. ولكن... أن نقول شعراً في بيروت، فلا بدّ للقصيدة أن تُرسم بلون القرميد وتُضيء قناديل الشوارع، وتتعطّر بوحدة النوافذ فتتخذ استدارة القمر.
تبرّجت بيروت في الأمس من أجل القصيدة، نزعَت خمارها على مرأى من العشّاق والولهى والوافدين إلى وجهها. صارت عنوانهم وتوقيعهم وانتظارهم، وصارت الأنثى المشتهاة المستلقية على رخام أخيلتهم وتهويماتهم وفي مطارات الرحيل. كانت سيّدة الحُجُب الشّفيفة، تُلامس ملامحُها مساكنَ الضوء فيشهرُ نورَه عابثاً بالظّلال المزيّفة. هي بيروت الملهِمة، السّاكنة بيوت القصائد ومدن الإيحاء. لا تستطيع أن تكون سوى قصيدة، في شطورها يُخترَع الشعراء والمغنّون، وتؤلَّف على إيقاع دهشتها سينفونيات الأبد.
جاءوا من مدائن تشبهها، في اللغة والجغرافيا ربما، ونزَق العواصم. لكنها الحبيبة الجديرة بعطر الأرز ودهريّة العبَق. شعراء مشّطوا ضفائرها بقوافٍ مسنونة على صخرة رَوشتها، وغمّسوا دواتهم في كُحلها الليلكي، فكانت هي الغاية واللقاء، وسماؤها خيمة العشّاق. أقبلوا إليها بكامل شغفهم وذروة انتظارهم، فوسّعت لهم في القلب مطارح للحب، وفي البال أرضاً للإخصاب.
quot;قصائد حب إلى نجمة بيروتquot;، كان العنوان الذي تحلّق حوله شعراء العرب ينشدون بيروت. في الجامعة اللبنانية الأميركية كان اللقاء برعاية رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال سليمان، وحضور ممثلين عن الرؤساء الثلاثة وحشد كبير من الدبلوماسيين وسفراء دول الشعراء المشاركين وهم: حيدر محمود (الأردن)، وفاء العمراني(المغرب)، فاروق شوشة(مصر)، صدّيق المجتبى(السودان)، جنّة القريني(الكويت)، شوقي بغدادي(سوريا)، مي الريحاني(واشنطن)، عبد الرزاق عبد الواحد(العراق)، سميح القاسم(عبر شريط مصوّر). بهذا المناخ الشعري عبقَ مسرح quot;إروين هولquot; في الجامعة الذي تميّز بحضور كثيف كان كافياً للتعبير عن تقدير اللبناني للشعر الذي ترجمه quot;مهرجان الأرز الشعريquot; مستضيفاً باقة شعراء أتوا خصيصاً ليعلنوا حبهم لبيروت العاصمة العالمية للكتاب لهذا العام، الحدث الذي أقيم المهرجان في سياق أنشطته. بوفاء الشعراء العرب لبيروت، افتتح اللقاء رئيس quot;مركز التراث اللبنانيquot; في الجامعة ومنظّم الاحتفالية الشعرية الشاعر هنري زغيب، مرحّباً بالضيوف والحضور، وموضّحاً غياب شعراء لبنان عن المهرجان بأن لا فضل لهم إن هم أحبوا بيروت وقالوا فيها القصائد. مستعيناً بمقاطع للشاعر سعيد عقل وللأخوين رحباني وفيروز في تقديمه الشعراء.
بيروت وحدك أنت سيدة الندى والاخرون صدىً ومحض طيوف
هكذا تغنّى حيدر محمود ببيروت في قصيدته quot;إعتذار متأخر إلى بيروتquot;. وفي مطوّلته quot;بيروتquot; غازل فاروق شوشة quot;اسطورة ملأت حلم الزمانquot; مستهلاً قصيدته:
عيشوا على حدّها المسنون، أو موتوا فدىً لها، إن ماء العين بيروتُ
بعدما توجّه إلى الشاعر زغيب بكلمة قائلاً: quot;منطقك الجميل في إقصاء شعراء لبنان عن عن الأمسية لم يقنعني، وأنا أدعوهم إلى أمسية يبوحون فيها بعشقهم لصبيتهم الخالدةquot;
أمّا quot;بطاقة حب إلى بيروتquot; فكانت من الشاعر السوداني صدّيق المجتبى الذي استحضر بها سفيرة لبنان إلى النجوم فقال:quot; معذرة فيروز فلم يبق سوى صوتك وطن/ للثورة والحب وأحلام الشعراء/ فهل غنّيتِ لنحيا لحظات(...). ومن الكويت ألقت جنّة القريني قصيدتها quot;بيروت شاعرة الدّنىquot; التي استذكرت فيها مناطق ومعالم وشعراء من لبنان. الشاعر السوري شوقي بغدادي كان لبيروت في شعره شطحات صوفيّة في صفحات من العشق وقصيدته quot;كتاب بيروتquot; ذات المطلع المُغري:quot; آتٍ لأقرأ سورة الماء المصفّى/ في هوى بيروت سافرةً/ وقد سقط الحجاب/ آتٍ لينقذني الكتاب/ ألله! ما هذا الشراب!quot; أما الصوت المغاير فكان مع الشاعرة المغربية وفاء العمراني التي جاءت قصيدتها من المناخ النثري المختلف عن القصائد الكلاسيكية في معظمها، فحمّلتها شجناً منساباً بين صورها الشعرية الكثيفة والمتواترة والمبتكرة:quot;كلما أوغلتُ في الغياب أشرعني الغياب عليك(...) يرنّحني جمرك المرفَضّ يتنوّر من حفيفي هذا الغبار/ تزرقّ لهفتي بعقيق من شوق خرافي كان قد أسّس بعضي!quot; ومن واشنطن الشاعرة اللبنانية الأصل مي الريحاني في قصيدة بالإنكليزية quot;رأيت الله يبتسمquot;، التي ترجمها إلى العربية الشاعر هنري زغيب وألقاها بعد تقديمها من الريحاني. أما quot;بيروت جئناك ولهىquot; فكانت قصيدة الشاعر العراقي عبد الرزاق عبد الواحد الذي أرسل مقطعاً قصيراً من القصيدة غير المكتملة، بسبب غيابه القسري على أثر عارض صحّي منعه من إكمالها وحضوره.
وقبل الختام قدمت الجامعة اللبنانية الأميركية الدروع التقديرية للشعراء، تسلموها من رئيس الجامعة الدكتور جوزف جبرا ومن سفراء بلادهم. وفي خلفية المسرح المتضمّنة صوراً عن بيروت، تغيّرت الصورة الأخيرة ليظهر الشاعر الفلسطيني سميح القاسم من خلال فيلم مصوّر يلقي فيه قصيدة كتبها خصّيصاً للمناسبة وأرسلها من الرّامة إلى بيروت الممنوعة القصيّة، فقبّلها من خلالها ولو في الخيال:quot; (...)يا نسيم الشمال سلّم على اهلي/ شمالاً واشرح عذابي المميتا/. بُح لأهلي: أدمى الحصار حنيني/ وبناري أشعلته كبريتا.(...) في خيالي قبّلتُ بيروت حيّاً/ يا خيالي، شكراً... ولي أن أموتا!quot;
ربما هو هذا الرويّ- الفخّ في مفردة بيروت الذي وقع فيه معظم الشعراء، فأتت القوافي متشابهة والمفردات مكررة، وكان لافتاً استخدام عبارات منفّرة في الشعر كالتابوت والطاغوت والرهبوت والراعوت وغيرها التي أظهرت تكلّفاً ما في بعض القصائد ونظماً وإنشائيّة في غيرها. وربما هو الّلحاق ببيروت ما يجعلنا دائماً خلفها من دون أن نلامس سحرها، هذا السحر الذي تعجز عن التقاطه حتى أبلغ القصائد.