صلاح سليمان من ميونيخ: هو كتاب جديد للمؤلف المغربي عبد الفتاح ديبون يأخذنا فيه الى عوالم السحر والسحرة التي تشغل كثيرا بال المجتمعات العربية، والتي فيها تصرف في كل عام ملايين الدولارات على الشعوذة وقراءة الطالع ومحاولة الاطلاع على الغيب ومعرفة المستقبل.
محتوى الكتاب يمر عبر عدة ابواب كلها عن السحر وطرقه المتشعبة وفيها يحاول الكاتب تفسير العملية السحرية. وما هو السحر او اصطلاح الكاتب تحديدا quot;العملية السحريةquot;؟ ولماذا يتغلغل في عقول البعض خاصة في المجتمعات الفقيرة فكريا؟ وما هي مظاهر النشاط السحري؟ ومن ثم الوصفة السحرية وكيفية تكوينها؟ حتى يصل بنا الى خاصية المادة السحرية نفسها؟ وينتهي الكتاب بفصل خاص عن طرق العلاج وكيفية الوقاية من السحر.
حاول المؤلف بشكل عام ان يجعل من السحر والنشاط السحري عملية قابلة للبحث في مكنوناتها ومن ثم تفسيرها وتحليلها كأي شيء قابل للتحقيق والتحليل، لذلك نراه عبر صفحات الكتاب يحاول رصد مراحل السحر وكيف يتشكل وما هو الوسط المناسب الذي يتأثر به، وكيف يتم عمل السحر وتحويله الى مادة فعلية ذات فعالية تؤثر في الاخرين، غير ان الكاتب لا يأتي على تفصيل الاشياء السحرية بشكل واضح لذلك فهو يرى ان التركيز على اعمال السحر تحديدا قد يكون مخلا بالغرض الذي جاء من اجله الكتاب، كذلك فان التطويل قد يكون غير مناسب لغير ذوي الاختصاص.
في خضم التفسيرات والتحليلات التي يزخر بها الكتاب حول القوى غير المنظورة وإيمان العقل البشري بها منذ عصر الانسان البدائي وحتى الان يرى الكاتب انها بقيت دائما امرا محيرا للانسان وظل ايمانه المطلق بها لايتزعزع، لكنه ابدا لم ينطلق الى محاولة فك وتحليل شفرتها لان الانسان قد اصبح قزما مفكرا حيث كان الضجر والتفاهة والامور الرتيبة هي الحقائق النهائية المطلقة بالنسبة له، ويدعم الكاتب تفسيره هذا بالاستعانة بكتاب وفلاسفة الغرب فيري ان quot;فاوستquot; لجوته هي اعظم دراما ابدعها الغرب وهي دراما الانسان العقلي الذي يختنق في غرفة وعيه الشخصي التي تعلوها الاتربة، وهو يدور متخبطا في دائرة الضجر والعقم المفرغة التي تؤدي بدورها الى مزيد من الضجر والعقم.
إن اشتياق فاوست إلى معرفة quot;الغيبquot; هو الرغبة الغريزية في الإيمان بالقوى غير المنظورة، وبالمغزى الأكثر اتساعا، الذي يستطيع أن يكسر تلك الدائرة فيضع نهايتها.
إن ما يثير الاهتمام في الكتاب هو رؤية الكاتب للانسان الغربي في تفسيره للقوى غير المنظورة فهو يرى انه طور العلم والفلسفة بسبب هذه الرغبة المتلهفة الحارقة الساعية إلى المغزى الأكثر اتساعا، ولم يكن تفكيره العقلي هو ما خانه، وإنما كان عجزه عن التفكير بوضوح هو الخائن، أي أن يفهم أن العقل الصحيح لا بد أن يستخلص من العلم quot;زاداquot; من المعنى إذا كان له أن يستمر في الحصول على نتيجة من المجهود الحيوي، وكان الخطأ القاتل هو فشل العلماء والعقليين في المحافظة على تفتح عقولهم للإحساس بالقوى غير المنظورة.لقد حاولوا أن يقيسوا الحياة بمسطرة طولها ست بوصات، وأن يزنوها بصنجات المطبخ. ولم يكن هذا علما، وإنما كان فجاجة لا تزيد أكثر من درجة واحدة على فجاجة المتوحشين، وقد سخر quot;سويفتquot; منها في قصته quot;رحلة إلى لابوتاquot; التي تتحدث عن الانسان وقواه الخفية.
هذا ولا يدعي مؤلف هذا الكتاب، امتلاك الحقيقة، ولا الانتصار لحقائق دون غيرها، وإنما هدفه تحطيم صنم الحقيقة الواحدة، وخلخلة مسلماتنا الفكرية التي رسختها العقيدة الغربية، التي تمجد العقلانية المطلقة، وترمي بالحقائق التي تأتي بها من مصادر غير العقل في مزبلة التخلف والجهل.رغم أن التمسك بحقيقة واحدة، يصبح جهلا مضاعفا، لأنه يجعل الإنسان أسير سياجات صنعها بنفسه واعتقد أنها نهاية العالم، فسقط أسيرا لها من حيث لا يعلم، فحرم من الاستفادة من الطاقات اللانهائية التي تزخر بها ذاته الإنسانية، وأقسم على نفسه أن يظل أعمى.
salah.
soliman@gmx.de