أيها القاضي لست قاتلاً...
كان صوته ينبعث من داخل ذكريات محمومة بالعَلن المجروح، ينبعث من هناك، من النار المسكوبة في ضميره المرتبك، ضميره الذي تشابكت في داخله البرائة الصريحة مع الجريمة المبهمة، كان لصوته صدى مدو في أرجاء القاعة المرعوبة، يتردد في شرايين الصخر الروماني المصفوف بعناية مُفرطة، ينفذ الى ذرات الكلس المطلي بزيت الحقد على شهادة التاريخ، لقد أذهلت صرخته المحمومة مطرقة القضاء البلهاء... هناك... في قاعة مُكتضَّة بنماذج من كل حثالات الأرض الوسخة، وقليل من شهداء الفضيلة المُستباحة، كان هناك الرجال والنساء، وكان هناك الكبار والصغار، كان هناك من كل لون ضاقت به مزبلة الأيام الحبلى بالجريمة، قاعة مُكتضَّة بالملائكة السريّين، مُكتضَّة بالذكريات المخزونة في روحه، روحه الموزّعة على كل هذه الاصناف، روحه التي توزّعت بين عذاب الحقيقة المخنوقة، ورخاوة الضمير المصنوع من أرباح السلع المزيفة، لقد كانت صرخته مثل كلمته، تدوي في كل أرجاء الكون الذي ملّه وكرهه وحقد عليه، وفي زاوية صوفيّة مختومة بمراسيم الإله المجهول يجلس رجل دين!
لم تكن صرخته ساذجة كي تمرّ بلا حساب، بلا حوار، بلا معركة تشق الناس بين حاقد ــ وهم كثر بل هم سادة الموقف في النتيجة النهائية ـ وبين متعاطف لا يقدر على التصريح، أو يجازف بذلك، فيضيف رقما جديداً الى قائمة الملعونين الى أبد الابدين، حتى إذا انحنى الزمن بكل جبروته لكلمته المفروضة بعد حين!
لستُ قاتلاً...
أيها القاضي لستُ قاتلاً...
أسألوا الاله السادر في غياهب الغيب، إسألوه، انتم ابناؤه، سوف لن يبخل عليكم بالحقيقة، سوف يجيبكم، يجيبكم وعلى شفتيه ابتسامة الرثاء البليد...
لستُ قاتلاً...
لستُ قاتلاُ...
صرخة تتلوّى وجسد يتلوّى، دوائر الالتواء تستقدم بعضُها بعضا، وتتقاطع باتجاه نقطة يحسب أنها موجودة بلا شك، رغم الفشل الذي لاقاه من وعدها المتكرّر، العدالة المدحورة أبداً.
ضجَّت القاعة بالاصوات، هي أصوات من داخل القاعة الكهنوتية المخيفة، ومن خارجها، من كل ارجاء الدنيا التي يعرفها والتي لا يعرفها، الاصوات تتعالى وتترى وتتلاحق، مثل حبات شهوة اراد لها االله ان تخلد في ملكوته المحجوب، الاصوات تتداخل، تتشابك، ولكن الأذن الواعية تميّز بدقة بين صوت يتجاوب مع صرخته المدويّة، وبين صوت يقول:
أقتلوه... إنّه آثم كبير!
لستُ قاتلاً...
أيها القاضي لستُ قاتلاً...
كان القاضي صامتاً، لا يجيب، تماماً مثل مطرقته البكماء، ولكن القاعة راحت تتزلزل من هدير الاصوات... من بعيد... من أقاصي المدينة جاء رجل أجرب، يحمل على ظهره هموم الكون المتصدع، يهرول، كان يهتف مرتعش الصوت: لستُ قاتلا! وفي وسط القاعة يتردد نباح كلب بائس: لستُ قاتلاُ!
، وفي أحد الزوايا الاربع تقف مومس شمطاء، فتحت عن فخذين جافين، راحت تبول وتقول بصوت مخنوق: لستٌ قاتلة، وبالقرب من باب القاعة انتصب شاب اسمر ممسوخ الوجه يصرخ كالمجنون: لست قاتلاً، ولم يكن القواد بعيداً عن ملحمة التمرد التي بدأت من دون مقدمات واضحة، انا القواد اقول بكل صراحة وبكل وضوح: لستٌ قاتلا...
وكان صمت...
هل انتصرت الحقيقة؟
أيها القاضي: هذا الماثل بين يديك مُختلس، لقد اختلس حياةً بلا حق، كذلك قال المرابي العجوز، الذي تصدّر باحة القاعة المخيفة، كان يتكلم بعصبية زائدة، يستمد جرأته من غباء الناس، من تراكم الغدر البشري لضميره، الضمير الذي خلقه الله ليكون شاهداُ على الحق.
أيها القاضي: هذا الماثل بين يديك، اغتصب حياةً بريئة، إغتصبها بلا حق، أنه سارقُ روح يا سيّدي القاضي، يستحق الموت، كذلك قال بائع السلع البائرة، كان هادئ الطبع، يعالج صوته بحركات مدروسة بدقة.
أيها القاضي: هذا الماثل بين يديك، ذبح انساناً من الوريد إلى الوريد، ذبحه بلا حق، سيّدي القاضي إنها جريمة بشعة، جريمة نكراء، لم يشهد لها التاريخ مثيلا، ولا أعتقد سوف يشهد لها مثيلا، كذلك قال قابض الارواح في ليل بهيم، كان يرهق نفسه غصباً، يراوده شبح السكين التي يمارس بها هويته المُفضّله، فتشاطر خياله الشغوف بالدم... بركة التعميد الجهنمي، وكأنه هو المقتول أبدا...
وكان صمت...
صمت يختلف عن سابقه، صمت لا يسبق العاصفة، بل هو صمت يسبق القدر المُعد سلفا بكل تفاصيله، القدر الذي شغلته عن هموم البشر تجاعيد العدل، خوفاً من أن تطل على نافذة الحياة، فتعلن انتحار الله الى الابد.
صمت غليظ، يفور بالحقد، يتنفس من رحيق الدم المباح أبدا، وَهمَ الانتصار، وَهمَ البقاء، ولكنّه انتصار على كل حال، وبقاء مهما كانت النتيجة.
قام مهاباً، يطل بنظرة مستوردة من علياء السماء المتجبر، يجسّد ضريح الموت المُقدّر بابعاد الموقف المطلوب، لا يلتفت، منتصب القامة، يعلوه شبح الحكمة الغادرة، فتح بين فخذيه السمينين، قلقلَ ما بينهما بدلال ملكوتي طافح بالنشوة، وهطل مطر السماء يزغرد لأمل ممقوت، وتناَدت صرخاتُ قحبة مستهلكة، تنادت صرخاتها من ولوج قضيبه الحيواني في أذن عذراء صغيرة، ما زال زغبها الملكوتي، يصلي فريضة الحب، بشهوة الطفولة الواعدة، جاءوا بها إليه يبارك أيمانها الطاهر، فايقظت فيه رغبته الحيوانية للانتقام من كل جميل، وتهلهل وجه المرابي العجوز ليعبّر عن فرحة الباقين، ولكن يبقى الرجل الاجرب على حاله من الذهول الرهيب.
يستحق الحرق!
وكان صمت...
صمت غاضب، يتطاير شررأ، يبحث عن الله في زوايا الاهمال بعد أن تملّكه يأس أبدي من زوايا المحاريب، القديمة منها والجديدة، صمت يتجول في شوارع المدن المهجورة،
بكاء الاطفال يُصعق الإله، لم يتصور الإله انّ صوت الاطفال يهزّ عرشه بهذه القوة، لقد كانت أصوتهم في عرشه منقوشة على شكل صور، الصور تحوّلت الى أصوات،، بكاء الطفل صوت، الصوت يخيف، يشعل في هشيم الذاكرة نار الأنبعاث من جديد، ألهذا كمّموا أصواتنا يا ناس؟
لستُ قاتلاُ...
لستُ قاتلاً...
أسالوا السكين التي ذبحت بها والدي، اسألوها، هي لسان حي، تختزن حبّي لأبي منذ أن قررت ان اكون مجنوناً، هي شهادة صارخة بالوجدان، لأني كنت أشحنها بالحب، يا ناس لستُ قاتلا ... لستُ قاتلاُ ... أين دم أبي؟ أين لحمه؟ أين عظامه؟
نامت على راحة يده، تتدغدغ ذكرياتٍ تشفع للحياة بالخلود، تأمّلها بهدوء الاتقياء الصادقين، لم يجروء يوما أن يدس يده بين نهديها، كانا نهدين ناعمين... نغم... نهدان يكتويان بحرارة الحب فقط، لاحت له من بعيد، اين هي الآن؟ نائمة على سرير الموعد الذي سيموت بعد قليل، ترقص للموت، بل لفكرة الموت، فهي خلاص أبدي من عيون تلاحق الحب في الظلام والنهار، على حدِ سواء، من أصابع الاتهام، أصابع تمور بوساوس الخوف من حرية الحياة، أين هي الآن؟ تتأمل أطراف شعرها، تتامل وجهها، تتأمل ذراعيها، هناك قصيدة تنتظر صرخة الناعي، هي الآن تتامل تراب القبر الموعود، تشمّ رائحة التراب، تتداعبه، ترمي به الى السماء فيتناثر ذكريات، تروي قصّة الحب الذي جلده بائع التقوى، موزّع البركات، هي الآن تبكي بصمت، بكاؤها يحرج الله... يجرح قلب الله ... يزرع الذكرى في الصخر اللعين...
أين أنتِ؟
ملاكي!
تضحك ... تركض... تنقلب على ظهرها... تساومه على قبلة سريعة، قبلة في الهواء، أنت وقح، أنت لا تصلح للمستقبل، قلبي يقول سوف يقتلونك... لا... سوف احميكَ بين نهديّ... لا أحد يستطيع أن يخطفك منّي... نهداي خلقهما الله كي يصلي بينها الله... فهل يستطيعون قتل الله؟
الله يا حبيبتي سادر في كثافة لحاياهم، هناك، يعبثون به في الوقت الضائع، يراهنون على سلامة بدنه المتهري، يوزّعون لحومه على أثرياء المدينة، يراهنون على حفظ دمه الذي سال ملايين المرات، سال بين أفخاذ عاجيّة، سال بين أصابع منحوتة من حقوق الفقراء...
نامتْ...
ملاحظة / المقال فصل من رواية للكاتب بعنوان ( شياطين ) طبع مؤسسة فيشون ميديا /السويد