أحمد محمّد أمين: في هذه الصالة ذات الأرضية الزرقاء / الملساء / والجدران البيضاء، والسقف الواطئ يُقام كلّ شهر معرضٌ للرسم أو النحت أو الفوتغراف لفنان معروف. لكنّي فوجئتُ اليومَ بافتتاح معرض لثلاثة فنانين، امرأة ورجلين. وكلّ أحد منهم له ثيمات واسلوب، وبين الثلاثة اختلاف في ضربة الفرشاة واختيار اللون والخط.. هنا لا يحفلُ الفنان بالهمّ اليومي الفردي والجماعي. ولا بتقلبات السياسة. فالهمُّ لا وجود له وفق مفاهيمنا الشرقية، الا استثناءات قليلة حول كبار السنّ والمُبتلين بالإدمان. فالدولة ُ جادة ٌ وحريصة ٌ ودائبة ٌعلى معالجة واجتثات مثل هذه الحالات، ان كانت مستفحلة لدى البعض. لذلك يُعنى الفنُ بكلّ أجنحته بالحياة، وبمظاهرها، وبما وراءها اذا جاز التعبيرُ، وفيما ألج صالة العرض تتمرأى ثلاثُ مدارس فنيّة تملأ الجدران. على اليسار كان الموتُ هو الحدثُ والبطلُ والشخصُ... الرسامُ الأول استخدمه وعمل على أنسنته عبر خمس جماجم في أوضاع متباينة. وكلّها تتوسّدُ عظام المرفقين والأصابع. والجماجم بمحاجرها الفارغة وفكوكها المُكتظة بالأسنان ساهية كما لو كانت تغفو وتحلمُ. وحُلمُها طويلٌ يتخطّى الوقتَ المألوف عند الأحياء. وربّما حلم ٌ سرمدي. والجماجمُ الخمسة ُومُلحقاتُها عظام الساعدين والأصابع رُسمت بالقلم الأسود. قلم لا يترك أثراً سوى غبار أثيريّ شفيف داكن ناعم بودّك لو تلمسه لكنه يعصى على اللمس. فاستخدمَ اسلوباً غريباً في رسم هذه الجماجم المستغرقة في حلم طوباوي عميق. آناً تتوسد عظام اليدين وآناً تنام على عظام الأصابع. فلا أحدَّ في ظنّي جسّدَ الموتَ بهذه الأريحية والفرح. واستقدمه من منظوره المُخيف المُلغز، فوضعنا ووضعه في مواجهة البعض. كم حاولتُ أن أعرف أوأفهم ما يُريدُ قوله الا أنّي لم أصلْ الى حسم. ثم لوحة ٌ اخرى لمجموعة من التلاميذ يرسمون شيئا واحداً، والشيءُ مجهولٌ كاللاشيء عصيٌ على الفهم والنظر. وله أيضاً لوحتان اُخريان أكبر مساحة، اولاها لشجرة جذعها وفرعها في السماء، وجذورها تتشظى تحت التراب كما لو كانت أوردة ً وشرايينَ. واللوحةُ الثانية اُفق ٌ مزدحم ٌ باللاشيء، لا شيءَ فيها واضح. بيدَ أنها مكظوظة بكائنات تُمكنُ قراءتُها وعدم قراءتها.
وحين انتقل الى الفنانة الثانية ألجُ متاهة َ ألوان، صورٌ بحجوم مختلفة كبيرة ومتوسطة وصغيرة تنتمي الى الجبهة الإنطباعية لوناً وخطّاً وايقاعاً، هي تنقلُ الطبيعة بدروبها وأشجارها وبيوتها ومائها الى لوحاتها. واحدى لوحاتها كبيرة تنطوي على بضعة بيوت مختلفة الألوان والأشكال مائلة يميناً أويساراً كما لو طالها زلزالٌ، تكتظ فوق هضبة فيها حفرٌ وصدوعٌ والتواءاتٌ وانحناءاتٌ. هي تعبيرية سريالية انطباعية، فقد اختلط فيها أنماط الفن بكل أجنحته. كلّ هذه المدارسُ تتنفّسُ فيها. لكني لم أحظَ في لوحات هذه الفنانة بجديد يصدمني. فرشاتُها لها عينُ عدسة الكاميرا، التقطتْ بأمانة الدربَ المحفوف بالشجر، والمقهى، والبيتَ اليتيم المُستغرق في وحدته ووحشته.أحسستُ أنّ ضرباتها تفتقرُ الى دراية وخبرة. لكنّها بذلت مجهوداً لتكون أمينة لمنهجها ونهجها اللذين تكرّسهما في عملها.
أمّا الاُسلوب الثالث فرسمٌ يتسيّدُ فيه القلم الأسود والخطُّ الرفيع يقوم بصياغة وجوه وأشخاص وحركات ومبان ٍ. أكثرُ من عشرين لوحة لنساء ورجال وفي أوضاع متباينة / جلوساً، وقوفاً، نياماً على أحد الجانبين / وتنطوي أيضاً على أشجار وبيوت وآفاق تحتشد بخلائقها. بيدَ أن الإيقاع قويّ رصين ٌ راسخٌ لفنان متمرّس متمترس بالإبداع. البشرُ في لوحاته في أوضاع الحبّ والإسترخاء والتأمل. وبعضُ لوحاته عن بيوت غرائبية خللَ بياض المساحة كما لو كانت وسط فلاة. الا أنّه لطّخ بعضها، بل حواشيها بألوان صفراء بنفسجية وزرقاء كأنّه رمى الى جوار الصورة سطلَ غسيل من اللون. لون بلا حياة كأنما هو جرح فوق مسطح اللوحة. أو لطخة على حواشي المشهد المرسوم. وفي ظنّي أنّ هذا الاُسلوب في الرسم ينتمي الى حداثة لم تترسّخْ بعدُ. حيثُ تتماهى وتتنوع وتتغيّر. ولولا أنّ رسوماتِ الرسام الأول عن الموت بأريحيته وكوميديته وحياديته وطيبته قد غشيت ذهولي لفضّلت رسوم الفنان الثالث على الأول. في كلا الطرفين إبداع ٌ له لغة ٌ خاصّة واسلوبٌ يختصر الطريق في كسب الرائي الذي يدور ويتأمل لوحات الرسامين الثلاثة. في لوحات الجماجم أشياء ما ألفناها وهي غريبة وصادمة الا أنّ الفن بقدراته المرئية واللامرئية قرّبنا من الموت الذي يهزّ أشدّ القلوب بأساً وعناداً.
حين غادرتُ الصالة كانت الرسوماتُ برفقتي، لم تُغادرْني أواغادرها. فظلتْ عالقة في ذهني، ثمّ نسيتُها مثلما تحبّ شخصاً من خلال خصلات انسانية أو جمالية، تحملُ معك حبّه وقتاً ثمّ تنساه.
بعد أيام جئتُ المكتبة لقراءة الصحف، واذ التفتُ الى يميني فأرى الصالة مكتظة بتلاميذ رياض الأطفال انتشروا فوق البلاط النظيف الناعم وهم بين جلوس يتربعون أو ينامون على بطونهم. وأمام كل واحد ورقة يرسُم عليها. بعضهم تكدّسوا أمام الجماجم وبعضٌ أمام اللوحات المُلوّنة ذات الإيقاع الإنطباعي. وبعض ثالث أمام رسومات الرسام الثالث. واسترعى انتباهي تلميذ ٌ كان ينام على ظهره مُمسكاً بالورقة فوق رأسه مستغرقاً في الرسم. كانوا ينقلون ما يتمرأى لهم، كلٌّ على طريقته الخاصّة. فيما كانت المعلمة تنتقلُ بينهم تنحني على هذا وذاك، تتحدّثُ اليه همساً، بل أحياناً تجلسُ الى جوار أحدهم، وهي في كلّ الحالات ترشدُهم وتوجهُهم وتدلّهم على الطريقة الصحيحة. كانت تهمسُ في اذن أحدهم : أتستطيع أن ترسُمَ هذه الجمجمة النائمة مع عظام ساعديها / يردُّ عليها :ليست نائمة، بل تفتحُ عينيها ما وسعها ذلك / لكنَ الجمجمة ليست لها عيون / سأرسمُ عينيها بعد أن انتهي من رسمها / وتنتقل الى طفل آخر كان يرسُم وجهاً لامرأة تنظر في افق هبابي، الا تجدُ صعوبة في رسم هذا الوجه ؟ / لا، لكني سارسُمه على طريقتي / وفيما كانت تمرّ بين تلاميذها الجالسين أو المستلقين على بطونهم انحنت على الذي ينام على ظهره، وورقته فوق رأسه. سألتْه: كيف تستطيع أن ترسم والورقة ُ معلقة ٌ في الهواء ؟ / ردّ عليها مكركراً : لا فرق عندي، وسوف اُريكِ رسمي حين انتهي منه / وظلت تتجوّلُ بينهم بهدوء قدسي، الطفلُ الصغير الذي لم يلج الإبتدائية بعدُ يرسُمُ وفقَ ما يُملي عليه خيالُه، ربّما رسم دائرة ً فيها ثقبان هما العينان فيُريها لمعلمته على أنها جمجمة، أو رسم مربعاً يضع فيه ثقوباً على أنه بيت. وقد ترسمُ تلميذة ٌ شخبطات خطوط على أنها وجه ٌ.
هنا يصنعُ الزمنُ المواهبَ، والموهبة ُ لا تأتي من فراغ. بل عبر التجربة والمران. فمُذ بكورة أيامهم يؤخذون الى السينمات والمسارح والأسواق والحدائق ومحطات المترو والغابة ليتعرّفوا كائناتها من ديدان ويرابيع ونمل ونحل وزنابير وفراشات وصراصر وأرانب أحيانا، وألوان من الطيور / العصافير والحمائم والفواخت والغربان والنوارس والزرازير.... فضلاً عن زيارات خاصة الى حدائق الحيوان.
كان بودّي لو أبقى طويلاً أملأ ناظري بهذا المشهد القدسي الذي لا مثيلَ له أبداً في بلادنا. ففي الوقت الذي تحظى فيه الطفولة في السويد بجلّ اهتمام الدولة والمجتمع يُقمعُ الطفلُ في بلادنا بالضرب والإهانة، والمدرسة ُأشبهُ باسطبل أو سجن. وما زالت تربيةُ الطفل مثقلة ًبعادات عشائرية أو طائفية لا تمت الى هذا الزمن بأيّ صلة. عندنا العصا والزجرُ والطرد وحشو واعية الطفل بالخرافات والعادات التي لا تتصل بأسباب الحضارة والحياة، أمّا هنا فأوقات الدراسة أشبهُ بنزهة، ففيها المتعة ُ واللعب والطعام ُ المجاني والدرسُ الجاد الذي يجري مع ما ذكرتُ من دون عقد أو رهبة.. التربية ُ والتعليمُ هنا ليسا حصراً على الكتاب والدرس والمحاضرة. بل هما الحياة بكلّ معانيها يحظى بآلائها الجميعُ كباراً وصغاراً.
- آخر تحديث :
التعليقات