عبد الجبار العتابي من بغداد: اكد البروفيسور العراقي مجيد الماشطة ان اللغة تُعرّف عادة بأنها اسمى وسيلة اتصال بشرية، لهذا فأنها تستوجب الدراسة الدقيقة المفصلة، مشيرا الى ان الدرس اللغوي بدأ منذ الاغريق ومر بعصور وازمان عدة كانت الافكار تتكاثر والتجارب تتواصل الى ان وصلت الى هذا القرن الحادي والعشرين وهي حبلى بالنشاط الانساني الذي انتج عدة كتب استطاعت ان تغير مجرى الدرس اللغوي.

والبروفيسور الماشطة.. رجل.. متواضع مثل سنبلة قمح ممتلئة، وان كانت قامته قامة نخلة، طاقة خلاقة تعمل بهدوء وتتكلم بأدب جم، مثل العلم الذي يحمله وذاكرته المفعمة بالمعلومات والتواريخ والاحداث، ولا يحاول الا ان يكون صنوا لغيره، لا يجد ان التميز من صفاته بقدر ما كان التواضع، حديثه ينساب مثل ماء.. سلسا وعذبا، لذلك يكون حديثه ممتعا ومفيدا، انه من مواليد الحلة التابعة لمحافظة بابل في العراق عام 1941، عمل في الجامعة المستنصرية ببغداد وجامعة البصرة في البصرة، وكلية التربية في مكة المكرمة وجامعة صنعاء في صنعاء وجامعة الفاتح في طرابلس، وقام بتدريس مادتي الترجمة واللسانيات، وأسهم في أكثر من 15 مؤتمرا متخصصا خارج العراق، وله دراسات منشورة في الأردن ولبنان والسعودية والكويت والإمارات واليمن وعمان وليبيا وتونس والجزائر والمغرب.

* من اين بدأ الدرس اللغوي الاول؟
- كانت البداية في القرن الرابع قبل الميلاد، حيث درس الاغريق لغتهم من كافة جوانبها الصوتية والصرفية والنحوية والدلالة، ميزوا مثلا بين الاسم والفعل والحرف وانواع الجمل : الانشائية والخبرية وغيرها، بعدها الاغريق لم يكن لديهم نحاة ولا لغويون، وانما كان هنالك فلاسفة يتكلمون عن كل شيء، سقراط هو الفيلسوف وهو الرياضي، متخصص في الرياضيات والشعر وغير ذلك، بعد افول نجم الحضارة الاغريقية اشرقت شمس الحضارة الرومانية في القرن الثاني قبل الميلاد، حاول الرومان ان يكتبوا وصفا للغتهم اللاتينية لكنهم لم يكونوا بالكفاءة التي كان عليها الاغريق، لم تكن لديهم الاصالة، لذلك استعاروا الوصف الاغريقي وحاولوا فرضه قدر الامكان على اللغة اللاتينية، فجاء الوصف الروماني مصطنعا الى حد كبير لانه لم يكتب اصلا للغة اللاتينية، بعد ذلك بعد قرون جاء دور العرب والهنود والصينيين، وكانوا بذات الكفاءة التي كان عليها الاغريق لذلك لم يعتمدوا على ما قاله الاغريق نهائيا، اعتمدوا على انفسهم في وصف لغتهم، لهذا جاء الدرس اللغوي العربي في وقته اصيلا لانه كتب بالذات للغة العربية اعتمادا على النفس ولم تجر اي محاولة رغم ما يشاع احيانا للاستفادة من الحو الاغريقي، كانت اوربا في تلك الفترة تمر بمرحلة سبات مظلم لعدة قرون.

* متى كانت اوربا قد انتبهت الى النحو؟
- في حدود القرن الرابع عشر ظهر هناك تقليد غريب في اوربا، في انكلترا مثلا : يطلب من الطالب ان يحفظ من ظهر قلب القوانين النحوية للغة اللاتينية التي لا يتكلمها اطلاقا، ما انواع الجمل؟ ما تسلسل الجملة، هل الفعل قبل الفاعل الى اخره او الفاعل قبل الفعل، الطالب يحفظها عن ظهر قلب، كانوا يعتقدون في ذلك الوقت ان استظهار القوانين النحوية انما يشحذ ذكاء الطالب، اذن كانت المسألة تربوية وليست لغوية.

* وهل استمر هذا التقليد طويلا ام حدثت تغيرات؟
- استمر هذا التقليد لاكثر من سنة، ولكن في القرن السابع عشر شعر الانكليز والفرنسيون وغيرهم بالحاجة الى كتابة وصف لغوي للغاتهم، واجهوا المشكلة التي واجهها الرومان قبلهم، لم يكن النحاة الانكليز بالكفاءة التي كان عليها الاغريق والعرب والهنود والصينيين، لهذا التجأوا الى استعارة الوصف اللاتيني، وصف الرومان للغتهم اللاتينية، وحاولوا تكييف هذا الوصف وهذه القوانين النحوية للغة الانكليزية، وظهر ما يسمى في ذلك الوقت (النحو الانكليزي التقليدي)، وهذا النحو يعاني من التصنع في حالتين، النحو اللاتيني كان مصطنعا لانه أُقتبس من الاغريق، فيما النحو الانكليزي كان مصطنعا ايضا لانه اُقتبس من النحو اللاتيني، لهذا جاء النحو الانكليزي التقليدي في القرن السابع عشر مصطنعا مهلهلا ويحاول النحاة تكييفه تدريجيا للغتهم الانكليزية، وهذا ما جرى في عدة دول اوربية اخرى مثل اسبانيا وفرنسا وغيرهما، واستمرت الامور على ما هي عليه حتى عام 1786 حيث عقد مؤتمر (كلكتا) في الهند، وهو مؤتمر لغوي، غيّر وجه الدرس اللغوي، لهذا يقسم الدرس اللغوي الان الى مرحلتين، ما بعد مؤتمر كلكتا، اي من زمن سقراط لغاية عام 1786،اي نحو 1300 سنة، وهذه تسمى مرحلة الدرس اللغوي القديم،المرحلة الثانية اعتبارا من مؤتمر كلكتا الى حد الان، ويسمى الدرس اللغوي الحديث، اعطيت للمرحلة في الانكليزية، تسمية (لنكوستيكس)، وترجمت كلمة (لنكويستيكس) الى اكثر من مرة الى اللغة العربية، ترجمت في الخليج العربي ومصر الى (علم اللغة)، وترجمت في سورية ولبنان الى (الالسنية) وترجمت في المغرب العربي الى (اللسانيات).

* ما جرى في عام 1786؟
- وليم جونس، قاضي انكليزي، يقال انه كان يتكلم نحو 28 لغة من ضمنها اللغة العربية، قال وليم جونز في ذلك المؤتمر : (ان هنالك تشابهات كبيرة جدا بين الاغريقية واللاتينية والسنسكريتية، وهذه التشابهات لا تكتفي بالتشابهات وانما تصل الى حد التراكيب النحوية)، قال وليم جونز ان هذه التشابهات لا يمكن ان تكون بمحض المصادفة، ومن الممكن ان تقتبس اللغة مفردات، لكنها لا تستطيع ان تقتبس تراكيب اساسية في اللغة، لذلك استخلص من ذلك ان هذه اللغات الثلاث (الاغريقية واللاتينية والسنسكريتية لابد انها اخوات انسلخت من ام واحدة، اذن وليم جونز قال ان هذه التشابهات تعطينا الدليل على ان اللغات تنحدر بعضها من بعض كما تنحدر البنات من الام البشرية، هذا الاكتشاف ولنقل هذا الادعاء احدث ضجة كبرى في اوربا، انطلق كل المتخصصين باللغة الى اكتشاف العوائل اللغوية، اية لغات هي امهات؟ واية لغات هي بنات؟ اية لغات هي اخوات؟، وهكذا، المشكلة التي حدثت في هذه الفترة انها جرت على حساب دراسة اللغة في وضعها الحالي، الكل كانوا يستديرون الى الوراء، ينظرون الى ماضي اللغات لا الى حاضرها، واستمرت هذه المرحلة 130 عاما، دعنا نسميها اللسانيات التاريخية.

* ماذا في هذه اللسانيات التاريخية واية امثلة ممكنة؟
- قالت اللسانيات التاريخية مثلا : ان الانكليزية والالمانية والهولندية والسويدية والنرويجية اخوات تنتمي الى أم واحدة، سموها الاغريقية، وقالوا ايضا ان اللغات الفرنسية والاسبانية والبرتغالية تنتمي الى أم واحدة، هي اللغة اللاتينية، وقالوا ايضا ان اللغة الاغريقية البائدة انجبت بنتا واحدة هي اللغة اليونانية الحديثة، وهكذا، اضافة الى البحث عن العوائل اللغوية، وطبعا لم يكتفوا بدراسة امهات اللغات القائمة، يعني الاغريقية بائدة والجرمانية بائدة، وحاولوا ربطها بأم واحدة،وهكذا استمرت الامور، اضافة الى تتبع العوائل اللغوية رست اللسانيات التاريخية عملية التغير اللغوي بصورة عامة والتغير الصوتي بصورة خاصة، واستخلصوا في دراستهم الى ان التغير الصوتي يحدث دون تنبيه ودون امكانية التنبؤ به، لكن ان حدث فسيكون نظاميا، اي انه سيحدث في جميع المواقف المتشابهة، على سبيل المثال : كلمة (طفل) في اللغة الانكليزية كان يسمى سابقا (كايلد)، فجأة وبدون استطاعة العلماء تفسير السبب تحول لفظ (كايلد) الى (جايلد) ولا زال طبعا، هذا التحول اخذ طريقه في جميع المواقع المتشابهة، يعني (ك / k) ومن بعده (آي / i) في كل اللغة الانكليزية تحول الى (جايلد) السبب؟، لا احد يستطيع التنبؤ بالسبب.

* يبدو ان هذه اللسانيات التاريخية استمرت لمدة طويلة، ما الذي استطاع تغييرها؟
- نعم.. استمرت نحو 130 سنة، الى ان ظهر كتاب (سوسير) فوجه لها ضربة قاصمة، سوسير هو استاذ اللغويات في جامعة جنيف توفي سنة 1913،طلبته وفاء له نشروا الملاحظات التي كانوا يكتبونها في درسه في كتاب، ايضا غيّر مجرى الدرس اللغوي، سموه (فصل في اللسانيات العامة).

* ما الذي جاء به سوسير ليمثل ضربة قاصمة؟
- سوسير انتقد بمرارة اللسانيات التاريخية متهما اياها باهمال دراسة الواقع اللغوي الحالي والتركيز فقط على دراسة العوائل اللغوية، سوسير.. ايضا، هاجم النحو التقليدي متهما اياه بتدريس الجزيئات على حساب الشمولية، مرة يدرس الطالب الظرف، وبعد اسبوع يدرس الصفة، وبعد اسبوع اخر يدرس المبني للمجهول.. الى اخره، يعني النحو التقليدي كان يعاني من تدريس الجزيئات، وكان يفتقد الى النظرة الشمولية، قال سوسير : يجب علينا ان نبدأ باللغة ككيان واحد ثم ننفذ الى الجزيئات، هذا الكيان الواحد سماه (البنية) لهذا سميت مدرسته بـ (البنيوية السوسيرية) او (البنيوية الاوربية)، لانه ركز على الدراسة الشمولية قبل الدخول الى الجزيئات قائلا : ان الروابط اللغوية بين الجزيئات اهم من الجزيئات نفسها، وكان سوسير اصيلا في ذلك، كتاب سوسير وجه ضربة (شبه قاتلة) الى الدراسات التاريخية، ولا اقول (قاتلة)، كان ذلك عام 1916، بظهور هذا الكتاب ظهرت ما تسمى (اللسانيات الوصفية) اي (مدرسة سوسير)، وكان له تلامذة اوفياء في كل اوربا فهناك مدرسة براغ ومدرسة كونهاكن وغيرهما، وفاء لسوسير فيما قاله.

* وهل ظلت مدرسة سوسير هي السائدة؟
- بالطبع لا، فهناك.. في الجانب الاخر من الاطلسي، اي في امريكا،ظهر كتاب حضي بالاهمية التي حضي بها كتاب سوسير، وهو كتاب (بلوفيلد) عام 1933، تأثرا بالخط العلمي العام في امريكا، دعا بلوفيلد الى قصر الدرس اللغوي على ما يمكن دراسته دراسة موضوعية فقط كما ندرس في الكيمياء الملح، الماء، على حسب الامثلة التي قالها، لهذا استبعد بلوفيلد دراسة المعنى الى حقبة زمنية لاحقة (لم تظهر الى حد الان)،، قصر درسه على الشكل، اي على البنية، لهذا وبمحض المصادفة سميت مدرسة بلوفيلد ايضا بـ (البنيوية)، لكن لسبب اخر.

* هل تقصد ان ما نتحدث عه في البنيوية غير تابع لمدرسة واحدة؟
- للاسف الكثير ممن يتحدثون عن البنيوية يتصورون انها مدرسة واحدة، هناك مدرسة بنيوية اوربية (سوسير) وهناك مدرسة بنيوية امريكية (بلوفيلد).

* هل ترى في ما جاء به بلوفيلد ما يثيرك او غيرك؟
- هناك خطأ ارتكبه بلوفيلد، وهو انه لم يلاحظ ان لا ضرورة لقصر الدرس اللغوي على ما يمكن ان يدرس موضوعيا فقط، الدرس اللغوي يختلف عن الرياضيات وعن الكيمياء، دراسة المعنى يجب ان تكون ذاتية وموضوعية في الوقت نفسه، هذه نقطة الضعف الكبرى التي عانى منها الدرس اللغوي الاميركي.

*وأي جديد مميز في قراءة افكار بلوفيلد هذا؟
- بعد تضاؤل الدراسات المقارنة لغرض التعرف على العوائل اللغوية دعا بلوفيلد الى عدم مقارنة اللغات لكثرة الاختلافات بينها، قال بلوفيلد : ان الاختلافات بين اللغات اعظم من ان تسمح لنا بالمقارنة بينها، لهذا دعا الى دراسة كل لغة لوحدها، ومن المفارفات ان طلبة بلوفيلد في الخمسينيات وما بعد اعادوا الدراسات المقارنة لكن لسبب اخر، ليس للتعرف على اللغات وانما لاسباب تعليمية، نحن ندرس الانكليزية في العراق لطلبة عرب، هؤلاء تلامذة بلوفيلد دعوا الى مقارنة اللغة الاصلية للطالب باللغة المتعلمة لتحديد مواضع السهولة والصعوبة في تدريس اللغة الاجنبية، وشاعت الموضة منذ الخمسينيات والستينيات ولا تزال، كتبت في الجامعات العراقية مثلا ربما مئات الرسائل التي تقارن العربية بالانكليزية لاغراض تعليمية، وليست لاغراض تاريخية.

* الى اي وقت استمرت هذه الافكار؟
- جرى كل هذا حتى عام 1965 حين ظهر كتاب ضخم للغوي الاميركي (تشومسكي)، اهتم بما يجري في ذهن الانسان قبل تكوين الجملة خلافا لمن سبقه، ودعا الى دراسة الجملة كما يدرس الطبيب الجنين قبل خروجه من بطن امه، ماذا يجري في الدماغ قبل ان ننطق الجملة؟، مهما كانت الجملة بسيطة (ذهب الولد الى المدرسة )، قبل تشومسكي كل من تحدث عن النحو يدرس طبيعة هذه الجملة : مم تتألف، اين الفاعل، اين الجار والمجرور، الى اخره، بينما الجديد الذي جاء به تشومسكي: ما الذي يحدث في الدماغ قبل ان يقوم اللسان بنطقه هذه الجملة؟ والعملية مجردة ومعقدة، المشكلة : ليست لدينا كاميرا ترينا ما يجري في الدماغ، اذن هي عملية تخمين وحدس، لهذا كانت نظرية تشومسكي ونسميها (النظرية التحويلية) من التقلبات السنوية، يكاد يكون لها ثوب جديد كل سنتين او ثلاث، لانها تعتمد على التخمين، تدرس ما يجري في الدماغ قبل ان نقوم بنطق الجملة.

* هل هاجم تشومسكي سوسير وبأي شيء اختلف مع بلوفليد؟
- تشومسكي لم يهاجم سوسير، سوسير قال اشياء عامة ربما يتقبلها الجميع ولكن سوسير لم يأت بمدرسة نحوية، اما بلوفيلد فجاء بمدرسة نحوية لهذا هاجمه بلوفيلد بعنف، قال تشومسكي مثلا : ان الجملة خلافا لمن قاله كل من جاء قبله، لها تركيبان، تركيب سطحي وتركيب عميق، ومطلوب منا ان نميز بين هذين التركيبين، هذه فكرة ريادية لتشومسكي وهو محق بها، وهذا ما لم يسبقه احد بها، مثل (أمرتها بغسل الملابس)، (وعدتها بغسل الملابس)، هاتان الجملتان تتماثلان في التركيب السطحي، فعل ماضي، فاعل، هاء / مفعول به / جار ومجرور، لكن في التركيب العميق هنالك : فاعل / والغسل يختلف عن الفاعل للغسل في الجملة الاخرى) وهذا ما يبرره تشومسكي بوجود تركيبين او بنيتين لكل جملة، هذا المثل (امرتها بغسل الملابس) هي التي ستغسل الملابس، بينما (وعدتها بغسل الملابس) انا الذي سأغسل الملابس، هذا الفرق غير ظاهر في التركيب السطحي، وعلينا ان نفكر بالتركيب العميق في ذهننا الذي لا ننطقه، نحن ننطق التركيب السطحي، هذا الشيء جديد لم يسبقه احد به، المشكلة الاخرى التي تناقش عليها بلوفيلد وتشومسكي هي : ان بلوفيلد يقول : ان الطفل يولد ويبدأ تعلمه للقوانين النحوية من الصفر، وهذا ما يقوله جميع من سبق تشومسكي، وتبدو المسألة منطقية : انك تتعلم القوانين النحوية للغة التي تحتك بها، يتربى الطفل في العراق ويتعرض للغة العربية وبمرور الزمن خلال تعلمه للغة العربية يتعلم القوانين النحوية العربية، اي ان الطفل يولد ودماغه صفحة بيضاء، هذا ما يتفق عليه اغلبنا، لكن تشومسكي جاء برأي جديد، القوانين النحوية عنده اربعة : مكتسب، وموروث، يقول تشومسكي : ان الطفل يولد وفي ذهنه قوانين نحوية عامة لا تختص بلغة معينة، وهذه القوانين لا اثر لها الا بعد الاندماج بالقوانين المكتسبة التي يتعلمها الطفل تدريجيا من خلال تعرضه للغة الام، واثارت المسألة هذه نقاشا كبيرا : هل القوانين كلها مكتسبة ام مكتسبة ومروثة؟.

* هذا سؤال يمكن ان اسأله انا، ماذا تقول؟
- اقول انه في عام 1975 جرت مناظرة مهمة جدا وكتبت عنها المجلدات، مناظرة (ريونيون) مدينة صغيرة جامعية قرب باريس حضرها عملاقان :نعوم تشومسكي وبياجيه، واثارت جدلا قويا، وكان هنالك فريقان، فريق ينتصر لتشومسكي وفريق ينتصر لبياجيه والحقيقة انني محظوظا اذ قرأت مجلدا بأكثر من 500 باللغة الانكليزية عن تفاصيل هذه المناظرة، بياجيه يقول : ان الطفل يولد بقابلية لغوية، هذه القابلية عامة من الممكن ان يستفيد منها الطفل خلال احتكاكه باللغة الام لكي يطور قوانينه النحوية بينما تشومسكي قال: لا.. الطفل يولد وبذهنه قوانين نحوية موروثة تصلح لكل اللغات، الميل العام في المناظرة كان الى جانب تشومسكي، اقتنعوا بما قاله، ومن الممكن ان نضعها في سلة واحدة ونسميها (النحو العمومي)، وهذا الحو العمومي هو القاعدة التي تقف عليها القوانين النحوية الفردية التي يتعلمها الطفل في السنوات الاولى من حياته، المزيج بين القوانين الموروثة والقوانين المكتسبة هي ما تمكن الطفل من تعلم اللغة، وما زال الصراع جاريا الى حد الان.

* اليست هنالك حقائق ثابتة؟
- ليست هنالك حقائق ثابتة، ان معظم النحاة العالميين الان يقفون مع تشومسكي في هذا الموضوع، وهذا ما نسميه باللسانيات النفسية : ماذا يحدث للطفل ساعة الولادة (هل ان دماغه فارغ كليا من القوانين النحوية او فيه قوانين نحوية؟)، اضافة الى اللسانيات الوصفية واللسانيات النفسية هنالك لسانيات اجتماعية تبحث عن العلاقة بين اللغة والمجتمع، ايهما يؤثر في الاخر؟، كتب اللسانيات الاجتماعية وهي كثيرة في اللغة الانكليزية ترصد نحو 10 % الى تأثير اللغة في المجتمع وترصد 90% او اكثر من صفحاتها الى تأثير المجتمع باللغة.

* كيف تؤثر اللغة في المجتمع؟
- المثال المالوف هو ألوان الطيف الشمسي، نجد هذا المثال في كل الكتب التي تتحدث عن تأثير اللغة في المجتمع، عندما ننظر الى الوان الطيف الشمسي الذي هو واحد سواء في اميركا او استراليا او اسيا، العين البشرية واحدة، ويفترض بها ان تعد الالوان بشكل واحد، ولكن ما يحدث ان بعض المجتمعات الافريقية في الغابات تعد لونين فقط، لو تساله كم لون ترى في الطيف الشمسي لقال : ارى لونين!!، والاعتماد في هذا على اللغة، اذ ان في لغتهم هناك اسمين اثنين او كلمتين اثنتين فقط للالوان : اسود وابيض فقط، وهو مقتنع بها، ويقول هنالك لونان فقط، بالنسبة له : الاسود والازرق والاحمر لون واحد فقط مع وجود ظلال، والاصفر والابيض والبرتقالي لون واحد، اللغة العربية غنية بمفردات الالوان لذلك نعد سبعة الوان، لكن لو اذهب الى تلك الغابات الافريقية واقول لهم انا ارى سبعة الوان وليس لونين فسوف يستهزؤون بي، اللغة عملت عندهم نوعا من غسل الدماغ، تأثير المجتمع في اللغة واضح، هنالك اللهجات العمودية والافقية، العمودية.. اي ان كل حرفة لها احيانا مفردات خاصة بها، قد تسمع شخصا يتحدث وتقول لابد انه استاذ جامعي،او لابد انه مهندس من جهة اخرى هناك الللهجات الافقية: هل هذا الشخص من الموصل او البصرة او سورية الى اخره، المجتمع اذن يوزع اللغة الى لهجات.

* ما العلاقة بين اللغة واللهجات؟
- تقول مصادر اللسانيات الاجتماعية ان اللغة مفهوم ذهني مجرد لا وجود له، عندما نتكلم او نسمع فأننا نسمع صيغة معينة نسميها لهجة، هذه اللهجات ان كانت متشابهة تركيبيا نضعها في دائرة واحدة ونسميها لغة، اذن المادة او الصيغة التي نتعامل بها، ننطق بها ونسمعها، هي اللهجة، اما اللغة فهي كيان مجرد، نضع عشرين او ثلاثين من اللهجات في دائرة واحدة ونسميها اللغة خلافا لما يقوله الكثيرون اننا نتكلم ام نسمع لغة ما، واذا اردنا الدقة صيغة معينة.

* كيف نضع اللهجات او الصيغ في دائرة واحدة؟
- يفترض بالقرار ان يكون لغويا، يفترض بالمتخصصين باللغة ان يحددوا ما اذا كانت صيغتان تنتميان الى لغة واحدة او لغتين، لكن الواقع ان القرار سياسي وليس لغويا، فالصين مثلا: هنالك ثماني صيغ للكلام، تختلف بعضها عن بعض كثيرا لايستطيع الناطق بهذه الصيغة ان يفهم ما يسمعه بالصيغة الاخرى، مع ذلك يصر الصينيون على ان هذه الصيغ الثماني هي لهجات للغة واحدة، السبب في هذا انهم يصرون على الوحدة الوطنية الصينية، ومما يشجعهم على ذلك انها تكتب بنظام كتابي واحد، من الجهة الاخرى هاك اللغة الالمانية واللغة الهولندية تتشابهان كثيرا، بامكان من يتكلم الهولندية ان يفهم ما يقوله الالماني بدون قاموس، لكنهم يصرون على ان هاتين الصيغتين انما هما لغتان وليستا لهجتين، والسبب في هذا انهم لايريدون ان يسموا (امة واحدة).

* ما الذي يحدث للدرس اللغوي ونحن في القرن الحادي والعشرين؟
- مايجري حاليا ونحن في القرن الحادي والعشرين هو محاولة الوصول الى نتائج ثابتة ومحددة بشكل خاص في اللسانيات النفسية، لان الامور لم تستقر الى حد الان خاصة : ماذا يجري في الذهن قبل ان ننطق جملة ما، والمسألة الاخرى : كيف يأتي الطفل في ساعاته الاولى، بصفحة بيضاء ام بقوانين نحوية؟ ليست هنالك ثوابت انما هي تكهنات ويحاول القرن الحالي ان يصل الى قرارات بمثل هذه الامور.

* ما تقول فيما يقال من ان النحو العربي نشأ في ظل ترجمة النحو الاغريقي؟
- لا اعتقد بذلك ولا بأمكاننا ان نثبت ذلك، العرب كانوا من القابلية بحيث لا يحتاجون الى الاستناد الى غيرهم، وهذا ما اكاد اكون متأكدا منه اما ان يتهنا الغربيون باستعارة النحو الاغريقي وتطبيقه في اللغة العربية فهذا امر ربما نعرف بواعثه عندهم.

* هل يمكن القول ان تشومسكي اطلع على التراث العربي؟
- هذه مسألة جديدة لي، وتحتاج الى اكثر من رسالة جامعية، واتمنى من طلاب الدراسات العليا البحث في هذا الموضوع وتبنيه لكي نصل الى الحقيقة، فالمسألة تحتاج الى رسالة او اكثر، وهنالك ستكون اصالة ضخمة.