محمد الحمامصي من القاهرة: تشكل تجربة الشاعر والناقد العراقي د.علي ناصر كنانة واحدة من أبرز التجارب الشعرية العراقية، ترسخت خصوصيتها رؤية وأسلوبا وتقنية عبر خمس مجموعات شعرية quot;تراتيل لوعة الزنبقquot;، quot;بغداهولمquot;، quot;فجاءة النيزكquot;، quot;سيدة الصيفquot;، quot;في العراءquot;.
د.كنانة حصل على درجة الدكتوراه في الآداب من جامعة الروح القدس - الكسليك بلبنان 2008، حول توظيف لغة الإعلام قبل وإبان الغزو الأمريكي للعراق 2003، والماجستير في الآداب ndash; تخصص في الأدب والأدب المقارن من جامعة ستوكهولم 2001، وبكالوريوس في الدراسات الثقافية من جامعة ستوكهولم 1999، وإجازة الدراسات البريدية العالية من المعهد العالي العربي للبريد (4 سنوات) التابع لجامعة الدول العربية، القاهرة 1983. قدم عددا من الكتب والدراسات منها quot;جيوش اللغة والإعلامquot;، وquot;إنتاج وإعادة إنتاج الوعي- عناصر الممالأة والتضليلquot;، وquot; الإعلام وأنظمة الإيهام ـ قناة الجزيرة أنموذجاًquot;، وquot;حُفاة العولمة ndash; قراءة نقدية لقضايا الواقع العربيquot;، فضلا عن أعماله الشعرية وترجماته.

** بادرتُهُ بالسؤال عن البدايات، حياةً وشعراً.. عن بيئة القصيدة الأولى.. فجاء من الانتماءَ إلى بدايات الحضارة في العراق، حيث أنجبت الكتابةُ حروفها، وحيث يروق للشغف أن يتسلّق quot;زقورة أورquot; ليحظى بعين الصقر، وحيث رثى quot;جلجامشquot; صديقه quot;أنكيدوquot; بالتوق للخلود، هناك قريباً جداً من quot;أسوار أوروكquot;، غيرَ بعيد عن خطوات quot;المتنبيquot; التي قادته إلى حتفه مكلّلاً بغار الخيل والليل والبيداء، وغير بعيد عن خرير quot;بويبquot; وجيكوريات quot;السيابquot; وريادات quot;محمود البريكانquot; وخصيب quot;سعدي يوسفquot;، وفي العمق من كنوز الحكايات وبلاغات الشعر الشعبي ونواحات الغناء العراقي، هناك ولدتُ في مدينة اسمها (الرفاعي) تهجع بشفافية على شط quot;الغرّافquot; الذي يتفرّع من نهر دجلة. وقبل أن أبلغ الخامسة عشرة ذهبت بي الأقدار إلى مدينة بعقوبة (60 كيلومتراً عن بغداد) لألتقي هناك الشاعر سفيان الخزرجي الذي كان يرعى مجموعة من الشعراء الصغار الذين لا يتجاوز عمر أكبرهم ستة عشر عاماً.. ليصبح أستاذي شعراً وفكراً. وكان عمري خمسة عشر عاماً عندما قرأت لأول مرة في أمسية شعرية أقامها اتحاد شباب بعقوبة الجديدة عام 1973. كانت إغواءات العاصمة بغداد تناديني فاستجبت لندائها ودرست الثانوية فيها، هناك حيث الاحتكاك المباشر بالحراك الثقافي الذي كان في قمة وهجه في سبعينيات القرن العشرين، ولكن هذا الوهج سرعان ما انطفئ بالحملة القمعية الشرسة التي شنتها السلطة ضد القوى الديمقراطية، الأمر الذي اضطرَّني إلى عبور حدود العراق إلى الكويت عام 1979 بصحبة أربعة من أصدقائي، حالنا بذلك حال جميع اليساريين العراقيين الذين كانوا يواجهون واحداً من خيارين: القبول بالتبعيث أو الموت. قصيدتان كنت نشرتهما في مجلة الطليعة الكويتية (وهي مجلة يسارية) مهدتا الطريق لي للعمل مصححاً لغوياً بالمجلة التي بدأت فيها أولى خطواتي في عالم الصحافة لأستقر لاحقاً محرراً صحفياً في صحيفة الوطن الكويتية. وجاء الانهماك في الصحافة وأضوائها على حساب الاشتغال المطلوب لإبداع القصيدة، حيث غلبَ المضمون السياسي على قصيدتي. في 1985 تم اعتقالي وتسليمي للسلطات العراقية حيث مكثت في المعتقل لمدة ستة أشهر قبل أن أُساق إلى جبهة الحرب مع إيران.. وهناك في الجبهة كرّستُ وقتي للمطالعة وإعادة النظر بقصيدتي فأنتجت مخطوطتي (تراتيل لوعة الزنبق) التي حملتُها معي يومَ عبرت الحدود العراقية نحو الكويت مرة أخرى عام 1988 متخفياَ في بيوت الأصدقاء لما يقرب من ستة أشهر قبل اعتقالي وتدخّل الأمم المتحدة لحمايتي في المعتقل لعدة اشهر توجهتُ بعدها إلى السويد لاجئاً سياسياً بجواز الصليب الأحمر الدولي في أبريل 1989 ولتصدر مجموعتي الأولى (تراتيل لوعة الزنبق) عام 1990 على نفقة المجلس الوطني للثقافة في السويد. كرستُ وقتي للدراسة وإعادة تأهيل نفسي أكاديمياً، فدرست في قسم الدراسات الثقافية بجامعة ستوكهولم لأحصل على البكالوريوس والماجستير. ثم عدت للكتابة في الصحافة الثقافية (القدس العربي) والسياسية (الراية القطرية)، فكان أن حصلتُ على فرصة العمل في المجلس الوطني للثقافة في قطر في سبتمبر 2001 حيث وفّرَ لي الاستقرار الحياتي بالدوحة إنهاء دراسة الدكتوراه وإصدار اثني عشر كتاباً حتى الآن، منها (جيوش اللغة والإعلام، دراسة مقارنة في لغة وإعلام الغزو الأمريكي للعراق). (إنتاج وإعادة إنتاج الوعي- عناصر الممالأة والتضليل)، (اللغة وعلائقياتها)، (اللغة والهوية، دول الخليج العربي أنموذجاً، من تأليف مجموعة باحثين، إعداد وتقديم)، (الإعلام وأنظمة الإيهام، قناة الجزرة أنموذجاً). (حُفاة العولمة ndash; قراءة نقدية لقضايا الواقع العربي)، (ليلاً على سفر ndash; شعر: توماس ترانسترومر (ثلاث مجموعات ومختارات) ndash; ترجمة عن اللغة السويدية)، ومجموعات شعرية (في العراء)، (سيّدة الصيف)، (فُجـاءة النيزك)، (بغداهولم)، (تراتيل لوعة الزنبق).

** كل نص من نصوصك يوقظ نشوةً ما فيك فأنت تكتب الشعر لتُفيق الروح من سباتها وتُعيد ترتيبها متمرداً على الغربة وغياب الوطن والحبيبة، ما أكثر ما تمردت نصوصك ضد كل هذا؟
** الكتابة الشعرية هي حالة تمرّد متواصل ومثابر ضد السكون والسبات وبشاعة الواقع.. هي محاولة ترميم مستمر للجراحات والكدمات والخيبات بغية المعادلة الموضوعية للذات مع العالم في رحلة العمر، أو رحلة الصراع الضاري مع المظاهر غير العادلة للواقع. فالاستسلام للغيابات الكثيرة في حياتنا يحيلنا إلى غياب آخر. وأخطر الغيابات هو غياب الذات، فآنذاك قد يحدث الغياب الأكبر حينما يصبح الوطن عرضةً للغياب. ولكي لا يغيب العراق كلياً تهرع الذات بشِعرها إلى الوطن المقيم في الذاكرة والوجدان تستنهض فيه أصالة وإشراقات الوجود. ومن هنا يأتي التمرّد لكي لا يستبدُّ الغياب بكل شيء وتخسر الذات بُعدَها الوجودي. فالذات بطبيعتها إما منكفئة أو منفتحة، وفي الحالين يتمظهر الانكفاء والانفتاح في القصيدة. ولذلك كله تظلّ اللغةُ مستنفّرةَ في أحراش التمرّد.

** حينما تعبر رياح الغربة في طيات روحك وتظهر بين كلمة وأخرى في أثرك الشعري يعنّ لنا السؤال: ما الذي أودعته نخلة البيت؟ وما الذي حررته المنافي ولم يحرره الوطن؟
** لعلّك تتحدث عن النخلة التي وردتْ في قصيدتي (مراثي الذاكرة) التي تعود لعام 1987 وتتضمن خمسة قصائد قصيرة، كانت إحداها (النخلة)، وهي نخلة حقيقية جلبها أبي فسيلةً صغيرة وغرسها في باحة المنزل وكبرت بيننا لتصبح كائناً من كائناته. وبعد وفاة الوالد بعدة سنوات قررت البلدية هدم عشرات المنازل لشق شارع عريض سمّوه (شارع 40) كنايةً عن عرضه، وكان منزلنا مشمولاً بالهدم، وحينما جاء بلدوزر البلدية للشروع بالهدم، وبعد هدم الجدار، طلبت أمي من سائق البلدوزر أن يقتلع النخلة بأناة والحفاظ على جذورها لكي نغرسها في منزلنا الجديد، اللحظة الوحيدة التي بكينا فيها جميعاً هي تلك اللحظة سقطت فيها النخلة ثم فشلنا في إعادة غرسها في باحة البيت الجديد:
هي دارٌ أخرى ..
سارعنا نبقرُ للنخلةِ بطنَ الأرضِ
لتألف رحمَ أمومتها.
وسقيناها الودَ
لعلّ لموسمِ خيبتنا عذقاً
لكنَ الموسمَ عادَ غريباً
والنخلةُ شاحبةٌ صفراءْ.
ولأن الشعر كوني، يختلط فيه الذاتي بالموضوعي، الأنا بالعالم، يمكن قراءة النص قراءات متعددة، وإسقاطه رمزياً على حالة عامة، وليس مطلوباً من الشعراء، بطبيعة الحال، أن يشرحوا قصائدهم أو أن يتحدثوا عن خلفيات كتابتها. هذه النخلة التي غادرت بيتنا الأول ولم تعد للحياة ظلّت حيةَ في ذاكرتي الطفلية لأنها جزءٌ من ذاكرتي الأولى. والنخيل عموماً في العراق يمثّل واحدة من تحوّلات الطبيعة ونباتها إلى بُعد ثقافي، حيث النخيل أكثر من عدد السكان قبل أن تحرق الحروب الحمقاء كثيراً منه، فالنخلة دال رمزي أصيل وقديم في النصوص الشعرية منذ الشاعر العباسي ابن القيسراني:
يا نخيل العراق كن في أمان الله
مستودعاً حيا الأنواء
مستقيما على طريق النعامي
راسخا في مسارح الأنداء
فالتفاتي إليك بعض حنيني
وثنائي عليك رهن انثنائي

حتى السياب في مطلع رائعته quot;أنشودة المطرquot;:
عيناكِ غابتا نخيلِ ساعةَ السحرْ
وشرفتانِ راح ينأى عنهما القمر
وعندما وجدتُني في المنفى الجليدي البعيد، في بلادٍ لا نخلةَ فيها، وبقدر ما كان يعصف الثلج كانت تعصف بي أشجان الحنين إلى النخيل بصفته دالاً، وفي غيابه شعرتُ أنني أتنخّل (إذ نحتُّ الفعل تنخّلَ من الاسم نخلة) فكتبت قصيدتي (التنخّل): (تنخّلتُ حتى غدوتُ بلا تربةٍ في جنوب العراقِ أموت).
وبما يتعلق بالجزء الثاني من سؤالك، فإن ما حرّرتْهُ المنافي هي الحرية التي قُعمت في الوطن بطغيان الاستبداد، ولكنها (أي الحرية) مهما بلغتْ في المنفى فهي لا تكون مشتهاةً كما يتمنى المرء أن تتحقّق في الوطن لأنها منشودٌ جماعي.

** ما الذي منحته لك الغربة ولم يمنحه لك الوطن؟
** لقد منحَني العراق كينونتي وهويتي وتاريخي وزهوي ولكنهُ أُبتليَ بطغاة لا يكفّون عن التنكيل بشعبهِ. وإنني لأخشى أن أجرحَ الوطن وأنا القائل، من فَرْطِ ما طفحَ بنا الكيل، في إحدى قصائدي: (شرفاً كان أم لعنةً إننا أقبَلنا عراقيين إلى العالم؟). وأنا شخصياً لم يمنحني العراق سوى الفقر والقمع والاعتقال والحرب والمنفى. وكل ما أنجزتهُ في حياتي كان بعصامية وبفضل تحرّري من النظام الاستبدادي واختيار المنفى.

** في كتاباتك.. ترتفع جدران الغربة لتوصد روحك بين أبعاد الوطن البعيد والأرض التي لم تمنحك دفء العراق.. كيف هي نظرتك للمكان وتأثيره على الشاعر أو الكاتب؟
** أيُّ نص لا يعي، من داخلهِ، جماليات المكان يبدو نصاً تائهاً. فالمكان هو بيئة النص الإبداعي وحاضنته، والنص بلا مكان هو نص بلا ملامح، معلّقٌ في فانتازيا واهية، وعندي: أصعب أشكال ولادات النص حين يخرج من رحمين، أعني من مكانين: مكان مادي قُيِّضَ للنص أن يتواجد فيه قسراً (أي المنفى) ومكان وجداني يقيم في الضمير والذاكرة واللغة (أي الوطن)، وأجدني بين مكانين أحاول أن أستدعي المكان الغائب إلى المكان الحاضر لإنقاذ القصيدة من الشعور القاسي بالغربة، وها أنا تارةً أنهلُ وطنَ القصيدة من الذاكرة وتارةً أستضيف الوطن إلى شوارع المنفى، وبين هذا وذاك أشياء كثيرة، وهذا هو ما دعاني إلى تسمية مجموعتي الشعرية الثانية quot;بغداهــولمquot;، وهو عنوان قصدتُ منه أن يكون توليفاً بين بغداد وستوكهولم، حيث وجدتني معلّقاً في مكان ثالث لا بغداد ولا ستوكهولم.. فالأولى غائبة والثانية غير حاضرة.

** في بعض كتاباتك يبدو أن لحزنك ظلاً يعلو بهامته النص لتمضي الكلمات أسفله وتعبر مباشرة لقارئك.. هل ترى أنك في مرحلة ما من الكتابة عبّرت عن الحزن المترف بجماليات تنشر هذا الحزن كمتنفس لمشاعرك وكسب مزيد من القراء؟
** هذا السؤال يعيدني إلى ما كتبته على هامش ديواني (بغداهولم) وأنقله هنا بالنص: (الكتابة الشعرية عندي مشروع ذاتي بحت، منفعلٌ بالموضوعي من حوله، كما أن إصدار ديوان - كما أرى - لا يشكل استفتاءً حول القصيدة، إنما هو محض فعل ذاتي يسعدهُ الإطراء ولا يعيبه التجاهل، رغم إيماني بأن النشر يحوّل العمل الأدبي إلى مشاعٍ ثقافي). يمكنني القول أنني واحد من أقل الشعراء نشراً، وما يهمّني هو كتابة القصيدة وليس نشرها.. لأن الشغف هو للكتابة والتوق إلى جمالياتها التعبيرية وليس لتسويقها. وعندما أنشر نصاً فأنا لا استفتي القراء عليه وإنما هو بعض من الاستجابة للنرجسية الطبيعية الكامنة في الإنسان. أما النصوص التي تبحث عن القراء والشهرة والتسويق فهي نصوص تفعل ما يفعله الخطاب السياسي الذي يسعى للتأثير بالناس، وهذا ليس من حيثيات كتابة القصيدة عندي. وبالتالي وبردٍّ مباشر أقول: أولاً: القصيدة ليست متنفساً لمشاعري أبداً لأن التنفيس عن المشاعر لا ينتج شعراً، أما الشعر فهو قضية حياة برؤية وجودية وكونية وإلا سيصبح مجرد استعراضات فارغة. وثانياً: كما أسلفت، قصيدتي غير معنية بالقارئ وإذا كان ثمة قارئ يبحث عنها فهذا أمر يسرّني ويستجيب لجوانيّات إنسانية وليس لكسب quot;الجماهيرquot;.

** حياتك.. تلك الخطوات التي عبرتها في طريق الحياة بما فيها من حزن مبكر ووعي بذاتك الشعرية وهجرة إلى البعيد، هي مراحل، ففي أية مرحلة أنت الآن؟
** أنا في المرحلة التي يتصاعد فيها الصراع مع الزمن.. الذي لا مجال لهزيمته. ولكنني أحاول مخادعته واتقان اللعبة معه حتى يحين ما لا مردَّ لحينه. أنا الآن في المرحلة التي أسمع فيها همهمات الذات الشعرية تنشد الترجّل. وبحس نقدي أشعر أن الأوان قد آن لأعتزل الشعر (بمعنى أن لا أعلن نفسي شاعراً) لأنني أدرك جيداً ماذا يعني أن تظل شاعراً وما هي متطلبات الاستمرار بكتابة قصيدة جيدة.. أعترف أنني، منذ سنوات الشباب، لم أستجب بما يكفي لاشتراطات القصيدة فانشغلت بالسياسة والصحافة وهموم أخرى. وفي كل مرة أسعى لإنقاذ القصيدة من تلك الضغوط الخارجية، وفي كل مرة أيضاً أجدني في معمعة ظروف أخرى تأخذ من حصة القصيدة. أعتقد أنني سأتفرغ للدراسات الثقافية والإعلامية وسأترك ما أنجزته من مجموعات شعرية لذاكرة المستقبل. لدي مشاريع كتابية ومخطوطات كثيرة. لذلك أسعى حالياً بجد لتوفير ظروف التفرغ الإبداعي لنفسي، لا أريد تقاعداً ولا دعماً من أحد، أريد أن أمتّع نفسي بدراسة ما أرغب بدراسته وأعيش الحياة كما أشتهي وسيكون لبنان هو مقر إقامتي.

** quot;الوطن هو كل شيءquot;.. هل تتفق مع هذه العبارة؟
** قبل سنوات وفي مقابلة تلفزيونية سألتني مذيعة قناة الجزيرة عن الحنين للعراق، فأجبتها مستغرباً: (الحنين؟! أنا العراق يمشي على قدمين).. وقد قال هذه الجملة أكثر من مبدع عراقي في وسائل إعلامية دون الإشارة إلى كوني أول من قالها. وهذا مقام مناسب لأكررها رداً على سؤالك. وسوى ذلك، لا بدّ من مقاربة السؤال من زوايا أخرى. ما هو الوطن؟ متى تصبح بقعة من الأرض وطناً بالمعنى المعاصر؟ الوطن، قبل كل شيء، علائقية ثقافية بين الإنسان والأرض تتساقى بعناصر كثيرة يخلقها الإنسان ويتفاعل بها مع تلك الأرض التي بات يشعر بالانتماء المكاني إليها: بيته ومرابع طفولته وذكرياته وتاريخ أهله وحقول أفراحه وأتراحه، علائقية وجودية موشّاة بالتعبيرات الثقافية، تعمّدها العطاءات والتضحيات والحماس. وأيُّ اختلال في عناصر هذه العلائقية تختل معه تفاصيل كثيرة. والوطن هوية وجودية لا يمكن التخلص منها مهما بلغ حجم هذا الاختلال. فحيثما نأت بنا الأهوال نجد هويتَنا تسبقنا إلينا، لا نكون بدونها حتى لو حاولنا الهرب منها، فهي تمكث في لغتنا وتختلط بأنفاسنا. الوطن هو الأنا بكل ناسه ونخيله ومائه وثقافته وتاريخه.. وليس أرضاً بوراً غير مؤنسَنة.

** هل أثّرت ترجمتك لأعمال الشعراء الآخرين في شعرك؟
** أؤمن أن هذا ما ينبغي أن يكون. لقد استفدت من دراستي للأدب الأوروبي بجامعة ستوكهولم ومن ثم ترجمتي لشعر توماس ترانسترومر (الحائز على جائزة نوبل 2011) وكنت أول من ترجمه إلى العربية في مختارات سمّيتها (ليلاً على سفر) وصدرت عام 2003. ومن الطبيعي أن تنعكس هذه التجربة على كتابتي الشعرية خصوصاً، وقد كانت آثارها جلية في مجموعتي (فجاءة النيزك) التي صدرت عام 2002. إن التثاقف مع آداب وفنون أخرى له تاريخ طويل في تأثيراته على النتاج الإنساني منذ ترجمات العرب لمؤلفات الإغريق ومن ثم ترجمات الأوروبيين للمؤلفات العربية في القرون الوسطى، وبالتالي فإن الاحتكاك المباشر بثقافة أخرى وبلغتها لا بدّ أن يؤتي ثماره على المستويات الجمالية والرؤيوية والفكرية.

** عملت في مجالات عدة وأثريت المكتبات العربية بدراسات ناقدة وأبحاث وترجمات، أين تجد نفسك في هذه المجالات؟
** المجال العملي الذي أحقق ذاتي فيه هو إدارة العمل الثقافي أولاً والإعلامي ثانياً. أما في مجال الكتابة فإن الدراسات الثقافية والإعلامية هي المجال الذي أكرّس جهودي لمواصلة العمل فيه. وأعتقد أن الثقافة العربية تحتاج إلى المزيد من هذه الدراسات سواء في الأوساط الجامعية أو خارجها. ولدينا الكثير من الظواهر التي تستدعي الدراسة. وبعد أن أصدرتُ أربعة كتب في هذا المجال، لدي كتاب تحت الطبع هو (الثقافة وتجلياتها- السطح والأعماق) فضلاً عن كتاب آخر هو (المنفى الشعري العراقي- انطولوجيا تاريخية للشعراء العراقيين في المنفى عبر العصور). وأشتغل حالياً على مخطوطة تتناول الأغنية العراقية للفترة 1920-1980، ولا أرغب بالكشف عن محتواها أو أسئلتها في زمن سرقة الأفكار!

** هل سيشهد الشعر الآن في ظل الثورات العربية مطالبة جديدة له بقصائد مناسباتية؟
** شعر المناسبات، في أساسهِ، ليس شعراً لأنه خطاب مباشر ينطلق من حيثيات غير شعرية ويتوجّه نحو شريحة واسعة من المتلقين (ولنقل الجماهير) تتوقّع النبرة المنبرية والحماسية أي أنه ينشد وظائفية أخرى، أمّا النص الشعري فهو يحمل في داخله ما تُدعى quot;الوظيفة الشعريةquot; أو الجمالية، لا يلتفت فيه الشاعر لغير إنشاء الجماليات النصية بعيداً عن أية لتأثيرات خارجية عليه أو يُراد منه أن يتوجّه إليها. وغالباً ما كنت أصنّف شعري إلى ثلاث طبقات: الأولى: تُعنى بالجمالي والرؤيوي، والثانية: تمثّل مواقفي، كفرد وليس كشاعر، حيال الأحداث، والثالثة: تخص قصائدي للنساء. وبما يتعلق بالطبقة الثانية، فأنا كأي إنسان آخر أنفعل بقضايا وطني وأمتي وأكتب تفاعلاً مع أحداثهما. فلم أصنّف غالبية قصائدي للعراق إبان الغزو على أنها شعر، وما يماثل ذلك ما كتبته عن ثورة تونس وثورة مصر من شعر عمودي، حيث كتبت لانتصار ثورة الشباب المصري:
سلمتم كما يسلمُ الأعظمُ
ومرحى لكم فاحكموا
زماناً تأخّرَ في شرقِهِ
ومجداً بكم يعظمُ
سلامٌ على زاحفاتِ
الحشودِ تردّدُ ما يلزمُ
والشعر له شروط أخرى غير الشروط التي يستلزمها نظم قصيدة في مناسبة معينة. أما من يريدون للشعر وظيفة تتماشى مع توجهاتهم فهم غير معنيين بجماليات القصيدة بقدر ما يعنيهم توظيف كل شيء لخدمة quot;السياسيquot; في مواجهة quot;الثقافيquot;.

** كباحث وشاعر هل تشعر بلا جدوى الكتابة أمام الواقع الكوني السائد؟
** بدءاً لا بدّ من التذكير أن تاريخ العالم لم يشهد في يوم من الأيام واقعاً كان محلَّ قبولٍ من قبل الشعراء أو سواهم من المبدعين.. وغالباً ما يشعر الشعراء بالإحباط والخيبة من خذلانات الواقع، ولكن الشعور بالعدمية لا يمثّل حلاً لشيء لا سيما وإن الشعراء لا يحملّون قصائدهم تطلعات مباشرة للتغيير وإنما تأثيراتها داخلية. وجلّ ما يتوق إليه الشعراء هو تحقيق الذات عبر إبداع الجمال لكي تستقيم الحياة.

** ما هو دور المرأة (الحبيبة) في حياتك الشخصية؟
** (مبتسماً).. المرأة هي العالم.. فهي أكثر أشكال الكون جمالاً، وهي المحتوى الملائكي الذي نعيد إنتاجه لغوياً لنبدع قصيدة.. وهي الكائن الوحيد الذي تُعوَّجُ رقابُنا التفاتاً إليه انبهاراً بسحره وفتنته. إن أكثر شعري قصائد للنساء ولكنني لا أنشره غالباً. وقد صدرت مجموعاتي الشعرية الثلاث الأولى دون أن تتضمن قصيدة وجدانية واحدة، حتى نشرت مجموعتي (سيدة الصيف) وندمت على نشرها.