ما كنت لأكتب عن انحراف حسن عبدالله حمدان المسمى "مهدي عامل" عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اللبناني الذي اغتاله حزب الله في العام 1987 حيث هذا الحزب بحكم شعاراته ونشاطه السياسي لم يعد شيوعياً منذ ما قبل أن يكون مهدي عامل أحد أعضاء لجنته المركزية وقبل انهيار الإتحاد السوفياتي. ففي انتقال الحزب من معمعان الثورة الاشتراكية الأممية إلى انتهاج الإصلاح (Reform) والعناية بالمسائل الوطنية التي تنحو إلى سياسة المهادنة مع الطبقات الأخرى في المجتمع بما في ذلك الطبقة البورجوازية الطفيلية، تلك السياسة التي كانت محل نقد ساخر من قبل ماركس ولينين، لم يعد الحزب الشيوعي اللبناني حزباً ماركسيا يأتلف مع أحزاب الأممية الشيوعية. حسن حمدان الملقب "مهدي عامل" كان المنظّر لذلك الإنتقال ؛ ويبدو أنه اختار هذا اللقب تحديداّ "مهدي عامل" لينفي عن أفكاره صفة الإنحراف وما كان ذلك ليكون بالطبع إلا لأنه هو نفسه يشك بانحراف أفكاره عن النهج الماركسي اللينيني. 


حال رحيل ستالين الذي شكل بشخصه القوة المركزية في الاشتراكية السوفياتية وفي قيادة الثورة الاشتراكية العالمية، بدأ لهيب الثورة الاشتراكية العالمية يخبو شيئا فشيئاً بعد أن كان قد وصل عنان السماء. في نهاية الخمسينيات بدأت تلوح في الأفق أعلام الثورة المضادة بقيادة البورجوازية الوضيعة السوفياتيةأ، وكان استقبال الدوائر الإمبريالية لصيحات خروشتشوف المعادية للبروليتاريا تعبيراً عن فرحها الغامر بهذا الرئيس السوفياتي غير المتوقع المعادي للاشتراكية وللحزب الشيوعي. تراجع الثورة الاشتراكية في مركزها الاتحاد السوفياتي انعكس مباشرة في انهيار حركة التحرر الوطني بدءاً بعشرات الانقلابات العسكرية الرجعية والدموية التي اجتاحت العالم في عقد الستينيات ومنها انقلاب في العراق 1963 حيث قتل أكثر من 10 آلاف شيوعي وانقلاب في أندونيسيا 1965 حيث قتل أكثر من 500 ألف شيوعي وبهزيمة مصر في حرب العام 1967، بل ويمكنني أن أقطع بإن انقلاب بومدين في الجزائر 1965 وانقلاب حافط الأسد في سوريا في 1970 كانا من تدبير المخابرات السوفياتية ضد الاشتراكية وضد ثورة التحرر الوطني وهو ما لم يتوقعه أحد من الشيوعيين ومن غير الشيوعيين وانعكس ذلك في قمع الحريات ببالغ الشراسة كما بات معروفاً في هذين البلدين الثوريين.
زعماء الأحزاب الشيوعية في العالم وبما حصّلوا من علوم الماركسية لم يتعرفوا نهائياً على أسباب ذلك الجزر الثوري على صعيد العالم. لذلك بدأ المثقفون الثوريون وخاصة في البلدان المستقلة حديثاُ يبحثون عن عيوب في النظرية الماركسية التي أدت إلى ذلك التراجع الكبير من جهة، وعن إمكانيات فصل ثورة التحرر الوطني عن الثورة الاشتراكية من جهة أخرى، مؤملين على الأقل استمرار الثورة الوطنية. في مثل ذلك الإرتباك الفكري ظهرت تيارات تسيء تفسير وتأويل الماركسية. ظهر من يقول أن عيب الماركسية الكلاسيكية هو أنها لا تعمل على الصعيد القومي، ولذلك استوجب تعريبها كي تنجز هدف البورجوازية الشامية في الوحدة العربية، وبرز في هذا الاتجاه إلياس مرقص وياسين الحافظ في سوريا، كما ظهر من يقول أن عيب الماركسية هو أنها لا تعمل على صعيد تطور المسائل الوطنية ولذلك توجب توطينها، وبرز في هذا الاتجاه حسن حمدان في لبنان ومحمد ابراهيم نقد في السودان، وظهر آخرون يدعون إلى تبيئ الماركسية، وراح بعضهم إلى إحياء التروتسكية مثل إرنست ماندل في بلجيكا وآلان وودز في بريطانيا أو الفوضوية مثل نعوم تشومسكي في الولايات المتحدة ومازن كم الماز في سوريا. في الحقيقة أن مثل هذه القراءات السخيفة للماركسية الني استدعاها جزر الثورة في النصف الثاني من القرن العشرين كانت موجودة قبل وجود الثورة الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي حيث أجمع زعماء الأممية الثانية ومنهم كاوتسكي وبليخانوف على توجيه نقداً قاسياً للينين لاعتقاده أن قوى الثورة الاشتراكية كانت الأقوى في المجتمع الروسي القيصري. لقد أثبت التاريخ على أن لينين كان الماركسي الحقيقي الوحيد بين زعماء الأممية الثانية، وقد زاد في القول أن الشيوعيين في الدول المستعمرة يتوجب عليهم ألا يعملوا في الصراع الطبقي بل عليهم أن يقفوا خلف البورحوازية الوطنية في نضالها التحرري وبخلاف ذلك فلن يُقبلوا أعضاء في الأممية الشيوعية. وهكذا فإن فرجار الماركسية يتسع ليحيط بمن يصطف في صف البورجوازية الوطنية دون أن تكون ماركسيته موضع اشتباه. وهكذا نفى لينين دعاوى حسن حمدان حول الصراع الطبقي في النظام الكولونيالي المزعوم في أطراف النظام الرأسمالي.


طالما أننا نبحث في تعريف حسن حمدان كداعية لتوطين الماركسية فلنا أن نشير إلى زميله في التوطين زعيم الحزب الشيوعي السوداني الراحل محمد ابراهيم نُقد الذي كان يؤم أعضاء اللجنة المركزية في الحزب في الصلاة، فقد كان أكثر وضوحاً ومباشرة من حسن حمدان حين أكد أن ماركس لم يعد مرجعيتهم الوحيدة بل يرجعون إلى كل الاشتراكيين الذين سبقوا ماركس والذين لحقوه. حسن حمدان قال نصف ما قاله نقد؛ قال أن الماركسية لا تغطي التطور الإجتماعي في الأطراف. لذلك هبّ يعارض ماركس صائحاً.. إقتصادنا الكولونيالي غير اقتصادكم الرأسمالي! الطبقات في مجتمعاتنا غير الطبقات في مجتمعاتكم! التطور الاجتماعي في بلادنا غيره في بلادكم! وعليه فنظريتكم يا ماركس مع كل الاحترام والتقدير لا تغطي الصراع الطبقي في بلادنا، لذلك ها أنا ذا أقوم ببناء نظرية تحاكي تطور مجتمعاتنا الكولونيالية. هذا هو مهدي عامل لمن لا يعرفه على حقيقته. ينظّر لانشقاق الحزب الشيوعي اللبناني عن وحدة الثورة الشيوعية العالمية الواحدة غير القابلة للتشطر والتي عبر عنها نداء ماركس التاريخي "يا عمال العالم اتحدوا". حسن حمدان يدعو إلى الخروج من هذه الوحدة التي دعا إليها ماركس ويهيب بعمال الأطراف ألا يتحدوا مع عمال المراكز. طبعاً مهدي عامل هنا يضلل العمال ولا يهديهم.
لئن كان هاك إقتصاد كولونيالي لا "يتماثل" مع الاقتصاد الرأسالي كما يدعي حمدان فإننا دون شك أمام ماركس الثاني بشخص حسن عبدالله حمدان. الأحجية التي لم يفكها حمدان هي الفرق في المعنى بين كلمتي "تماثل" و "تكامل". يقول حمدان أن اقتصاد الطرف لا يتماثل مع اقتصاد المركز وهذا لغوٌ بغوٌ ليس ذا معنى حيث المقارنة لا تستقيم إلا إذا تمت بين وحدتين مستقلتين تماماً بينما اقتصاد الطرف لا يمكن أن ينفصل عن اقتصاد المركز تماماً فهو يكمله، ومعنى يكملة أي أن اقتصاد المركز لا يكتمل إلا بوجود اقتصاد الطرف فهما في وحدة واحدة غير قابلة للإنفصال ؛ وحدتهما كوحدة المنزل والمصرف لا يعمل أحدهما منفصلاً عن الآخر. حسن حمدان يقول للمصرف شروطه الخاصة به وهي تستوجب الإصلاح والعناية، لكن ذلك الإصلاح وتلك العناية لا معنى لهما إلا إذا ارتبط المصرف بالمنزل وعمل على تصريف مخلفات المنزل ؛ وحدة المنزل والمصرف لا انفصام فيها فكلاهما لا يعمل بدون الآخر وكذلك هي وحدة المركز الرأسمالي وطرفه "الكولونيالي!". الهدف الرئيسي لتنظيرات حسن حمدان الخنفشارية هو عزل المجتمع اللبناني عن مسار التطور الأممي العالمي وهذا بحد ذاته يتعارض مع أولى قواعد العمل الشيوعي الأممي.
فيما قبل الحرب العالمية الثانية كانت دول العالم العربي دولاً طرفية وتعمل كمصرف لفائض الانتاج المتحقق في مراكز الرأسمالية وكان فك ارتباطها بمراكز الرأسمالية مستحيلاً بدون الإعتماد على الاتحاد السوفياتي كما أكد لينين في رسالته إلى زعماء الشرق الإسلامي المجتمعين في باكو/أذربيجان 1921. في الحرب الوطنية 1941 – 1945 حطم الاتحاد السوفياتي السور الحديدي الذي أحاطته به الإمبريالية إثر هزيمتها على يد البلاشفة في العام 1921، كما حطم ألمانيا النازية التي كانت قد حطمت أكبر امبراطوريتين إمبرياليتين في التاريخ هما بريطانيا وفرنسا. خروج الاتحاد السوفياتي من الحرب كأقوى قوة في الأرض سمح لكافة شعوب المستعمرات في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية أن تهب ثائرة لتفك الروابط مع مراكز الرأسمالية وتستقل، وقد تحقق كل ذلك على امتداد ربع قرن بعد الحرب 1946 – 1972 حين أعلنت الأمم المتحدة نهاية الاستعمار في العالم. الاقتصاد الطرفي قبل الاستقلال كان جزءاً من اقتصاد المركز مندغما فيه بكل حركاته ولا يجوز اعتباره اقتصادا كولونيالياً له خصائصه الخاصة به بعيداً عن مقتضيات المركز، أما بعد الاستقلال فهو من اقتصادات الدول النامية المعلومة تفصيلاته وحركاته. أما الإدعاء باقتصاد كولونيالي فذلك بدعة، وبظني أن مهدي عامل هو أول من يعرف أن بدعته إنما هي مجرد بدعة حيث لا بد وأنه حاول تحديد الطبيعة المختلفة للإقتصاد الكولونيالي وفشل ؛ ما الذي يحدد الإنتاج وإعادة الانتاج في أطراف مراكز الرأسمالية؟ الدورة الاقتصادية في هذه الأطراف ثابتة لا تتبدل ولا تتغير، تبادل فائض الإنتاج في المركز بالمواد الخام ؛ الغرم في هذه المبادلة هو أن فائض الإنتاج يحمل 70% أو أكثر من قيمته هي قيمة قوة عمل بينما المواد الخام لا تحمل أكثر من 10%. أي تغيير أو تبديل في هذه المعادلة لا يتحقق إلا بحاجة أو طلب من المركز. أما بعد الاستقلال فإن انهيار الثورة الاشتراكية قد سد طريق التطور والتنمية أمام الدول المستقلة حديثاً وهكذا نتحقق من أن عمارة مهدي عامل النظرية القائمة حصراً على فرضية الاقتصاد الكولونيالي إنما هي عمارة في الهواء تتهاوى حتى بمرور نسمة هواء خفيفة. 


ما يستوجب الإشارة إليه هنا بالتحديد هو أن أولئك الذين طفقوا يبحثون عن عيب أو نقص في الماركسية ليسوا جميعاً ممن ارتدوا إلى أصولهم البورجوازية الوضيعة فهناك أيضاً شيوعيون ما زالوا يعترفون بصحة الماركسية كما جاء بها ماركس وإنجلز لكنهم فشلوا في التعرف على أسباب انهيار الاتحاد السوفياتي من خلال الصراع الطبقي بين البروليتاريا والبورجوازية الوضيعة وراحوا يتهمون دولة دكتاتورية البروليتاريا السوفياتية باتهامات مستوردة من عالم آخر غير عالمها، إتهامها بالبيروقراطية ورأسمالية الدولة وقمع الحريات وهي اتهامات لا تجوز إلا على دولة عصابات وليست دولة طبقية بحجم البروليتاريا السوفياتية. ما ضيع الجميع في هذه الحقبة من تاريخ البشرية رغم الاسترشاد بعلم التاريخ الماركسي هو أن البورجوازية الوضيعة السوفياتية حاربت البروليتاريا من داخل مواقعها، من داخل هيئة رئاسة أركانها، من الحزب الشيوعي حزب لينين وستالين.