&ما لا يجوز القفز عنه في معرض تسجيل وقائع وحقائق مسيرة الشيوعية التاريخية هو تجاهل المؤرخين والمحللين السياسيين بمختلف اتجاهاتهم وألوانهم القدرات الأسطورية التي بذلها الإتحاد السوفياتي في هزيمة النازية التي استطاعت أن تجند كل الموارد المادية والبشرية للقارة الأوروبية من أجل احتلال الاتحاد السوفياتي وتفكيك المشروع اللينيني في الثورة الاشتراكية العالمية . لم تبق قوى في القارة الأوروبية لم تساعد النازية في الحرب على الاتحاد السوفياتي .

بإمكان هؤلاء المؤرخين والمحللين السياسيين أن ينسبوا كل الأخطاء والخطايا للإشتراكية السوفياتية وإلى إدارة ستالين خصوصاً، ويزعموا أنها العلل التي أدت إلى انهيار الاتحاد السوفياتي بعد أكثر من سبعة عقود على قيامه، لكن ما يدعو فعلاً ليس إلى التساؤل فقط، بل وإلى الاشتباه أيضاً هو أنهم جميعاً يقفزون عن أهم وأكبر وقائع التاريخ الحديث وهي الحرب العالمية الثانية التي رسمت الجغرافيا السياسية لعالم اليوم، وقد برز فيها الاتحاد السوفياتي عملاقاً يقرر مختلف نتائجها فتبدو بجانبه ليس ألمانيا الهتلرية فقط بل وسائر الدول الكبرى أقزاماً قليلة الحول والقوة . الامبراطورية الفرنسية ومعها قوات بريطانيا العظمى لم تصمد أمام عشر فرق هتلرية على الأرض الفرنسية لأكثر من ستة أسابيع فقط، بينما وقفت 180 فرقة هتلرية عاجزة مهزومة أمام أسوار موسكو في ديسمبر 1941 . الدولتان العظميان بريطانيا والولايات المتحدة لم تحاربا ألمانيا على الإطلاق واستغرقتا سنوات الحرب الستة تحاربان على شوطئ المتوسط إيطاليا وحدها والتي لم تكن تملك أكثر من ثلاثين فرقة رثة سيئة التسليح . أما إنزال النورماندي والذي، بعد لأي ولؤيّ، بدأ كي تشارك الدول الغربية في الحرب على ألمانيا النازية فلم يكن قبل السادس من يونيو 1944 عندما كانت هزيمة ألمانيا محققة وواضحة في الأفق القريب . ومع ذلك فقد احتاجت جيوش إنزال النورماندي، جيوش بريطانيا والولايات التحدة وكندا واستراليا إلى حماية من الجيوش السوفياتية لإنقاذها من الحصار في جبال الجاردنز (Jardins) وقد حاصرتها 20 فرقة ألمانية ليلة الكرسماس 25 ديسمبر 1944 . خلال عشرة إيام من الحصار بذلت الجيوش المحاصرة كل قواها وعبثاً حاولت الإفلات، ولما تهددها الفناء أو الاستسلام اتصل ونستون تشيرتشل هاتفياً بستالين يستعطفه إنقاذ جيوش الحلفاء التي ضاق عليها الخناق . وحين رد ستالين بالاعتذار، حيث كان قرار غرفة العمليات الحربية استراحة الجيوش السوفياتية المنهكة حتى الثامن والعشرين من يناير، بكى تشيرتشل على الهاتف وخاطب ستالين قائلاً .. " تذكر أيها الصديق ستالين فيما بعد أنه كان لك أصدقاء في بريطانيا ! " وهو ما أثار عواطف ستالين المخلص لحلفائه بشكل لافت فطلب حالاً من غرفة العمليات البحث في إنقاذ جيوش الحلفاء إلا أن أحداً من أعضاء غرفة العمليات لم يوافق على أي خطة للإنقاذ . إذاك أصدر ستالين أمراً حربياً وهو القائد الأعلى بتبكير الهجوم العام لمختلف الجيوش السوفياتية إلى الثاني عشر من يناير بدل 28 منه كما كان مقرراً أصلاً . في الحال اشتغلت الماكينة الحربية ليل نهار خلال أسبوع، 5 – 12 يناير، رغم ما كانت تعاني من إرهاق حتى تمكنت الجيوش السوفياتية في الثاني عشر من يناير 1945 من فتح أكبر معركة في تاريخ الحروب في ثلاث جبهات تعد حوالي ثلاثة ملايين جندياً إمتدت على عرض القارة الأوروبية من بحر البلطيق شمالاً حتى جبال الكربات جنوباً فكان أن اضطر النازيون إلى سحب ثمان فرق من الحصار وبذلك تمكنت جيوش الحلفاء من الإفلات .&
لقد عبر ونستون تشيرتشل أصدق تعبير عن العملاق السوفياتي في رسالته إلى ستالين في السادس من إبريل نيسان 1943 إذ قال ..&
" I am deeply conscious of the giant burden borne by the Russian armies and of their unequalled contribution to the common cause ".
وهو ما يعني .. " أنا أعي بكل جوارحي المهام العملاقة التي تقوم بها الجيوش الروسية لأجل قضيتنا المشتركة والتي لا يمكن لأحد أن يجاريها " .
لماذا تشيرتشل كان يعى بكل جوارحه العملقة السوفياتية ولا يعيها اليوم مختلف المؤرخين والمحللين السياسيين ؟ تلك هي القضية التي نتوقف عندها لنراجع وقائع وحقائق مسيرة الشيوعية التاريخية كي نتحقق من أسباب مثل هذا التجاهل أو اللاوعي .
في الثاني من أكتوبر 1941 بدأت معركة موسكو وانتهت في 7 يناير 1942 وكانت أول هزيمة تلحق بألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية فكان أن احتفت أجراس كنائس انجلترا بالنصر ورغم ذلك أحداً من المؤرخين والمحللين السياسيين لا يذكرهاعلى الإطلاق .
في الثالث والعشرين من أوغست آب 1942 بدأت معركة ستالينجراد وانتهت في الثاني من فبراير 1943. انتهت تلك المعركة بالقضاء التام على الجيش السادس الألماني بأكمله وما كان المؤرخون والمحللون السياسيون ليذكروا معركة ستالينجراد إلا لأن هتلر أعلن الحداد التام لثلاثة أيام في ألمانيا على خسائرة الفادحة في ستالينجراد التي باتت أمثولة للشجاعة الفائقة بتقدير الملك جورج السادس والرئبس روزفلت .
في الخامس من يوليو تموز 1943 بدأت معركة كورسك وانتهت في 23 أوغست آب وقد شارك في المعركة أكثر من خمسة آلاف دبابة سوفياتية ومليونا جندي وانتهت المعركة في كسر العمود الفقري للعسكرية الألمانية ومع ذلك لا يذكرها المؤرخون والمحللون السياسيون، وكأن لم تكن رغم أنها المعركة التي أكدت هزيمة ألمانيا .
في الثاني عشر من يناير 1945 بدأت القوات السوفياتية بأكبر هجوم حربي عرفه تاريخ الحروب ؛ إمتد الهجوم السوفياتي من بحر البلطيق شمالاً إلى جبال الكرابات جنوباً وكان الهدف الرئيسي لذلك الهجوم الأعظم هو إنقاذ جيوش الإنزال النورماندي من تطويق يهددها بالفناء التام . وكان هناك في معرض تقدمهامعركة تحرير وارسو في 17 ينايرالتي كلفت القوات السوفياتية أرواح مئات ألوف الجنود. ولا يذكر المؤرخون والمحللون السياسيون معركة تحرير وارسو إلا ليهاجموا القيادة السوفياتية لتأخرها في نجدة الإنتفاضة لتحرير وارسو من النازيين متجاهلين حقيقة ثابتة وهي أن الإنتفاضة كانت ضدالسوفييت أكثر مما هي ضد النازي . كان قادة الإنتفاضة من جماعة ما يسمى بالحكومة الحرة المعادية للشيوعية المقيمة في بريطانيا، وكان هدف الانتفاضة المعلن هو تحرير وارسو قبل وصول القوات السوفياتية فلا يدخلها السوفييت الشيوعيون . كما يتجاهل المؤرخون والمحللون الاستراتيجيون أضخم وأوسع جبهة حربية عرفت في تاريخ الحروب !!
في السادس عشر من ابريل نيسان 1945 هاجم برلين من ثلاث جهات ثلاث جبهات حربية ضمت حوالي ثلاثة ملايين جندياً سوفياتياً وانتهت مقاومة برلين في الثاتي من مايو ووقع قادة من تبقى من جنرالات النازيين وثيقة الاستسلام في 8 مايو أيار 1945 لتنتهي الحرب العالمية الثانية، أكبر حرب تدميرية في تاريخ البشرية .
في السابع عشر من يوليو تموز 1945 عقد في بوتسدام من ضواحي برلين مؤتمر قمة للدول المنتصرة الثلاث، بريطانيا ممثلة برئيس وزرائها ونستون تشيرتشل والولايات المتحدة ممثلة بالرئيس هاري ترومان والاتحاد السوفياتي ممثلاً بيوسف ستالين، لتقرير الشروط والعلاقات الدولية التي انتهت إليها الحرب . في المؤتمر حاول الطرفان اللذان لم يشاركا فعلاً في الحرب ضد ألمانيا، بريطانيا وأميركا، تحصيل امتيازات لا يستحقانها ـ وقد مثلا كتلة واحدة أمام ستالين حيث كان الرئيس التقدمي روزفلت قد رحل قبل نهاية الحرب بثلاثة أسابيع وقد عرف بانحيازه إلى ستالين ضد تشيرتشل ـ وهو ما لم يتحمله ستالين فوجه صفعة قوية لتشيرتشل بالقول .. " أنت لم تأت إلى هنا إلا لتحاصص في غنائم الحرب، أما أنا فما أتيت إلا لأدافع عن حقوق الشعب الألماني الديموقراطية " . ومن المعلوم في هذا السياق أن كلاً من تشيرتشل وترومان دخلا برلين دخول القادة الفاتحين مع أنهم لم يشاركا في فتح برلين ـ وما كان باستطاعتهما أن يفتتحاها، أما ستالين فكان قد أعطى تعليمات مشددة إلى جوكوف وقد بات الحاكم العسكري لبرلين بأن لا يقام أي مظهر احتفالي لوصوله مراعاة لشعور الشعب الألماني . وفي المؤتمر حرّض تشيرتشل ترومان على تحجيم ستالين بالكشف عن القنبلة الذرية جديدة التصنيع وعندما حاول ترومان أن يكشف لستالين عن السلاح الجديد تجاهله ستالين ورد بالقول .. " لعل سلاحكم الجديد يعينكم على مواجهة اليابان " ؛ ولعل ستالين كان يعلم باكتشاف القنبلة الذرية ربما قبل أن يعلم بها ترومان فكانت الصفعة التي وجهها ستالين لترومان تقول له كيف تهددوننا ومع ذلك تستعطفوننا لمساعدتكم في مواجهة اليابان التي كانت قد ألحقت بالجيوش الأميركية هزائم متلاحقة . ما جعل اليابان تستسلم لأميركا في الثاني من سبتمبر 1945 ليس هو القنبلتان الذريتان على هيروشيما في السادس من أوغست وعلى ناغازاكي في التاسع منه بل كان ذلك بعد أن قضت الجيوش السوفياتية على كامل القوى البرية لليابان في منشوريا . حاربت اليابان أميركا والاتحاد السوفياتي مجتمعين أكثر من ثلاثة أسابيع طويلة بعد الضربتين الذريتين .
هنا نصل إلى السؤال المفصلي المطروح ليس على المؤرخين والمحللين السياسيين فقط، بل على الجميع، على الشيوعيين قبل غيرهم، وهو لماذا كان الاتحاد السوفياتي عملاقاً في العام 1945 يجند قوى هائلة فوصل تعداد الجيوش السوفياتية لدى احتلال برلين 6.5 مليوم جندياً بعد أن كان قد فقد 9 ملايين جندياً، وينهي كل آثار الحرب في العام 1950، ويرد ستالين على تشكيل حلف شمال الأطلسي بالقول .. " نحن لن نحاربكم بل سنهزمكم بالمنافسة السلمية "، ثم يشرع بتنفيذ خطة تنموبة عملاقة بنجاح في العام 1951، ثم فجأة ودون سايق إنذار يبدأ بالإنهيار في العام 1953 ؟&
نحن هنا نؤكد للجميع، للسياسيين وغير السياسيين، للإقتصاديين وغير الإقتصاديين، لليساريين كما للشيوعيين، لكل الذين يهتمون بما سيكون عليه غدهم، نؤكد أن الإجابة على هذا السؤال المفصلي هو المفتاح لكل الأسئلة . لماذا بدأ الاتحاد السوفياتي العملاق في العام 1952 الاتهيار في العام 1953 ؟
&
(يتبع)
&