وقائع وحقائق الإنقلاب على الاشتراكية وتفكيك المشروع اللينيني في الثورة الاشتراكية العالمية الذي جرى في الخمسينيات هي أكبر كثيراً من أن يتجاهلها المؤرخون والمحللون السياسيون . لعل هؤلاء المطعون بأمانتهم يبررون مثل هذا التجاهل الغريب بحجة السرية المطبقة التي تحكم القرارات السوفياتية الخطيرة، غير أن ما يكذّب هذه الحجة هو أن وسائل الاعلام العالمية علمت بكل تفاصيل خطاب خروشتشوف المحكوم بالسرية التامة بعد ساعات قليلة من إلقائه وذلك لأنه يهاجم ستالين تحديداً وهو أقصى ما يتمنونه . فلماذا لا تعلم وسائل الإعلام هذه بطرد سبعة أعضاء من المكتب السياسي للحزب، وهو أعلى سلطة للدولة، والإبقاء على اثنين فقط في يونيو حزيران 1957 وكأن خروشتشوف وميكويان فقط هما اللذان يمثلان الحزب الشيوعي والسبعة الآخرون من رفاق لينين وستالين أُكتشف فجأة بأنهم من أعداء الحزب بالرغم من أنهم كانوا قد خاضوا الحرب الأهلية كبلاشفة في العام 1917 بل إن كبيرهم مولوتوف كان يجلس بجانب لينين لدى إعلان انتصار انتفاضة أكتوبر 1917 !!

الدلالة القاطعة على أن تجاهل المؤرخين والمحللين السياسيين لذلك الإنقلاب التاريخي على الاشتراكية في الخمسينيات ينم عن خبث وتآمر فاضحين لا يستهدفان مستقبل الثورة الشيوعية فقط بل ومستقبل الإنسانية أيضاً فالقراءة العلمية الدقيقة للتاريخ منذ ذلك الإنقلاب تقول أن التطور الحتمي للمجتمعات البشرية خرج عن مساره الطبيعي منذ ذلك الحين ولن تستعيد الانسانية عافيتها قبل العودة إلى المسار الصحيح . &يخادع هؤلاء الخبثاء المتآمرون فيزعموا أن الإشتراكية التي بشر بها ماركس وإنجلز في القرن التاسع عشر إنما هي أضغاث أحلام لا تستند إلى الواقع المحسوس، وها هو النظام الرأسمالي ينتصر على النظام الاشتراكي الذي تفكك ولم يعد له أثر في الوجود !! الحقيقة التي يقولها الواقع الملموس هي العكس تماماً مما يدعيه هؤلاء الخبثاء المتآمرون . صحيح أن لهيب الثورة الاشتراكية بدأ يخفت فعلاً في الستينيات فكان أن أُذلّت البحرية السوفياتية الشماء عندما خضعت للتفتيش من قبل جنود البحرية الأميركية على حدود المياه الكوبية، وقامت ثورات مضادة في المجر وبولندا وتشيكوسوفاكيا, وعشرات الانقلابات العسكرية الرجعية على طول العالم وعرضه في الستينيات، والنكسة الكبرى في هزيمة مصر في العام 67، كل ذلك التراجع للثورة الاشنراكية العالمية لم يحل دون انهيار النظام الرأسمالي على أساساته مع بداية السبعينيات .
التاريخ هو التاريخ مهما تخابث وتواطأ المؤرخون والمحللون السياسيون فذلك لن يغير في شيء، فليعتقد ما يعتقد هؤلاء المؤرخون والمحللون فذلك لن يغير من الحقائق على الأرض . انتهت الحرب العالمية ليكون الاتحاد السوفياتي، دولة العمال الاشتراكية الأولى في التاريخ، أقوى دولة في الأرض وهو ما شكل المظلة التي سمحت لثورة التحرر الوطني بالإنفجار في القارات الثلاث ، آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية ، فكان أن فكت جميع الدول المستعمرة والتابعة روابطها مع مراكز الرأسمالية الإمبريالية فلم تعد هذه الدول مكبات لفوائض الإنتاج في تلك المراكز الرأسمالية . إنسداد مصارف مراكز الرأسمالية يعني مباشرة اختناق النظام الرأسمالي بفائض إنتاجه وهو ما كان . نقرأ إعلان رامبوييه الذي وقعه زعماء الدول الرأسمالية الخمسة الغنية الكبرى (G 5) في 17 نوفمبر 1975 فلا نجد فيه إلا إعلان نعي النظام الرأسمالي بدءاً بسحب عملات هذه الدول من التداول الحر في أسواق الصرف بهدف تثبيت أسعار صرفها وهو ما يعني قطع العلاقة بين النقود من جهة والانتاج البضاعي من جهة أخرى الأمر الذي يشير إلى أن هذه المراكز الرأسمالية لم تعد تنتج البضاعة الكافية لتغطية نقودها، فالنقود في نهاية الأمر إنما هي المعاير لقيمة البضاعة وليست هي بذاتها ذات قيمة على الإطلاق، أي أن هذه الدول لم تعد رأسمالية فالرأسمالية إنما هي إنتاج البضاعة كما يدل على ذلك دورتها الكلاسيكية (نقد ـ بضاعة ـ نقد) &. &لقد عانى الدولار الأمريكي انتكاسات هائلة خلال النصف الأول من السبعينيات وكان ذلك المؤشر الحقيقي إلى أن الولايات المتحدة لم تعد دولة رأسمالية تنتج البضاعة . نعم لقد باتت منذ أكثر من ربع قرن أكبر مستورد للبضاعة في العالم وتزيد قيمة مستورداتها من الصين الشعبية وحدها على 400 مليار دولاراً سنوياً، ومع ذلك يصر المؤدلجون المفلسون على وصف الولايات المتحدة الأميركية بالرأسمالية الإمبريالية ؛ يغطون الشمس بالغربال كيلا يفتضح إفلاسهم السياسي والإيديولوجي .
القاعدة الأساسية التي يقوم عليها علم الإقتصاد هي أن القيمة (Value) تنحصر في قوة العمل (Labour-Power) المختزنة في البضاعة ؛ تلك هي الحقيقة العامة التي ينطلق منها مختلف علماء الإقتصاد . لكن قمة رامبوييه انكرت هذه الحقيقة العامة واعترفت بقيمة النقد منفصلاً عن البضاعة وهذا أمر مخالف لطبيعة الأشياء فما وجد النقد أصلاً إلا لمعايرة قيمة البضاعة . تلك المخالفة مكنت الولايات المتحدة من أن تطبع المليارات من الدولارات دون أن تنتج بضاعة تغطي القيمة المحددة لهذه الدولارات . العلاقات الدولية فيما بعد إعلان رامبوييه غدت تقوم على قيمة الدولار الذي لا قيمة له في الحقيقة . ومع ذلك تجد من يقول أن النظام الرأسالي انتصر على النظام الاشتراكي والحقيقة هي العكس تماماً حيث انهار النظام الرأسمالي قبل السبعينيات بينما انهار ما تبقى من النظام الاشتراكي في التسعينيات .
&
في سبتمبر ايلول 1953 قررت عصابة خروشتشوف في المكتب السياسي إلغاء الخطة الخمسية الخامسة بدعوى أنها توهن قوى الدفاع عن البلاد ؛ أما السبب الحقيقي فكان تحويل الأموال اللازمة للإنفاق على تنفيذ الخطة الخمسية التي كانت ستجعل من الاتحاد السوفياتي جنة الله على الأرض، تحويلها إلى العسكر وإنتاج الأسلحة ـ كتب خروشتشوف في مذكراته قبل أن يتوفى في العام 1971 أنه لا يخاف إلا من العسكر وهو ما يعني أنه ومنذ أن اعتلى سدة الرئاسة في الإتحاد السوفياتي لم يكن أكثر من دمية (Puppet) بيد العسكر . طبعاً لم يكن الحزب قادراً على اقتراح برنامج تنموي في مؤتمره العشرين 1956 إلا إذا أعلن أنه سيزيد من عدد الدبابات بنسبة 30% والطائرات الحربية لنسبة 40% والصواريخ البالستية بنسلة 50%، وبالطبع لم يعلن الحزب ذلك لما فيه من انتهاك للأسرار العسكرية .&
في العام 1959 أحس خروشتشوف أنه يسير في طريق مسدود، فدعا إلى عقد مؤتمر استثنائي للحزب يقرر خطة تنمية سباعية تعوض الكثير الذي ألغي من الخطة الخماسية الخامسة . العسكر الذين باتوا أسياد خروشتشوف وأصحاب القرار لم يسمحوا بذلك الأمر الذي حدا بخروشتشوف إلى أن يلجأ إلى تعميم حافز الربح في الإنتاج وهو ما يعني التخلي عن روح النظام الاشتراكي والرجوع إلى العمل المأجور، عصب الانتاج الرأسمالي الذي ليس له أدنى فرصة للظهور في النظام السوفياتي . &ما كانت خطة خروشتشوف السباعية 1959 – 65 لتنجح والسلطة كل السلطة في قبضة العسكر بعد رحيل ستالين مباشرة . انتهت خطة خروشتشوف السباعية إلى الفشل الذريع وهو ما دعا خروشتشوف إلى العمل على الخروج من مظلة العسكر بعد أن كان منذ رحيل ستالين العبد المأمور للعسكر . &لذلك قام العسكر بخلعه تحت التهديد بالقتل في أكتوبر 1964 واستبدلوه ببريجينيف المتعاون المطواع .&
مع بريجينيف استمر العسكر يستولون على ريوع مجمل الإنتاج السوفياتي على سعته الفائقة وينفقونها على إنتاج الأسلحة وتطويرها وكانت حجتهم الكاذبة في هذا هي سباق التسلح مع الولايات المتحدة بينما هم في الحقيقة يسبقون الولايات المتحدة بأجيال عديدة وهو ما كان محط شكوى دائمة من قبل الإدارة الأميركية . &وحجتهم الأخرى الأبلغ كذباً هي زيادة منعة الاتحاد السوفياتية الدفاعية غير أن التاريخ يقول العكس تماماً فتحويل هتلر كل الصناعات المدنية إلى صناعات عسكرية لم يجلب لألمانيا إلا الدمار الشامل، بينما معارضة ستالين لإنتاج وتطويرالأسلحة جلب للسوفييت النصر المؤزر . يجب أن يعلم من يستهجن مثل هذا القول أن معاداة ستالين للتسلح كما كان معروفاً في قضية المارشال توخاتشوفسكي في الثلاثينيات إنعكس في تطوير الإنتاج المدني وتطوير علاقات الانتاج المتغيرة باستمرار في المجتمع الإشتراكي وهو ما مكن الاتحاد السوفياتي من سحق ألمانيا الهتلرية حتى العظم، وكانت أول هزيمة لحقت بجيوش هتلر في الحرب العالمية على أبواب موسكو بالرغم من أن جيوش هتلر كانت ضعف الجيوش السوفياتية، سواء كان ذلك من حيث العدد أو من حيث العتاد .
&
القوى التي عرضها الاتحاد السوفياتي في الحرب في موسكو، في ستالينجراد، في كورسك وفي برلين كانت محط إعجاب العالم بأسره وخاصة أولئك المعنيون بالأمر، ونستون تشيرتشل وفرانكلن روزفلت . الدول الغربية الكبرى الثلاث لم تحارب في الحرب العالمية الثانية باستثناء حرب العلمين حيث واجهت جيوش الحلفاء (عشر فرق من الانكليز والأمريكان والفرنسيين والاستراليين والكنديين والهنود والمصريين والأفريقيين الجنوبيين واليونان والنيوزيلانديين والفلسطينيين !!) في مواجهة خمس فرق من الطليان وبينهم عدد من الألمان . أما إنزال النورماندي فكان أقل من 200 الف جندي لم يشتبكوا مع الألمان وعندما وقعوا في تطويق قاتل احتاجوا لمساعدة من السوفييت مما استدعاهم لأن يشنوا أكبر هجوم حربي عرف في تاريخ الحروب غطى عرض القارة الأوروبية .
وعندما شكل الغربيون حلف شمال الأطلسي رد عليهم ستالين باستخفاف قائلاً .. " لن نحاربكم لكننا سنهزمكم بالمنافسة السلمية " . من ذات الجبروت كان إنذار بولغانين لدول العدوان الثلاثي على مصر في نوفمبر 1956، وإنذار شبيلوف للولايات المتحدة وبريطانيا في يوليو 1958 يطلب الإنسحاب السريع من لبنان والأردن، وكان الإذعان التام للإنذارين .
مقابل ذلك تراجعت مهابة الاتحاد السوفياتي على الصعيد الدولي وكان عقد الستينيات عقد الانقلابات العسكرية الرجعية وكانت هزيمة الثورة العربية وهي أهم ثورات التحرر الوطني في العالم ووقف السوفيات يتفرجون على ناصر والمصريين ينهزمون أمام القوى الاستعمارية إتساقاً مع سياسة خروشتشوف القاضية بفصل الثورة الاشتراكية عن الثورة الوطنية .
ومن سخرية الأقدار أن يقف الرئيس السوفياتي ليونيد بريجينيف في مؤتمر هلسنكي أوغست 1975، وهو من حل محل ستالين، يخطب مستعطفاً قادة الدول الرأسمالية وهي في انهيار تام لملاقاته في منتصف الطريق فلا يخسر شيئاً كلانا !! قائد الثورة الاشتراكية العالمية، ثورة لينين، يرجو ألا تخسر الدول الرأسمالية شيئاً &!! ـ فاتك الميعاد يا بريجينيف فقد جعلها ستالين تخسر كل شيء جراء حركة التحرر الوطني وقد انبثقت من الانتصار السوفياتي العظيم في الحرب العظمى . نقول لبريجينيف الحكمة الشعبية " إلْتمَّ المتعوس عَ خايب الرجا " .
&
(يتبع)