موضوعنا ينتهي إلى تبيان أين وكيف انتهت مسيرة الشيوعية التاريخية . كي نتبيّن ذلك يتوجب علينا قراءة تاريخ النصف الثاني من القرن العشرين قراءة علمية وموضوعية حيث مثل هذه القراءة بالغة الأهمية فهي تترسّم مصائر الجنس البشري .
كيف لنا أن نقرأ هذا التاريخ قراءة علمية وموضوعية ؟ ما الدالة التي تسعفنا في مثل هذه القراءة ؟ ما الذي اعتل مسيرة الشيوعية حتى بات السوفياتيون يصطفون طوابير طويلة في المدن السوفياتية في العام 1986 للحصول على أبسط حاجة معاشية، بينما كانوا قبل نصف قرن في العام 1936 في رغد من العيش مقابل طوابير الشوربة الطويلة في الولايات المتحدة الأميركية كما قارنت الصحافة الأميركية نفسها !؟ &ما عساها تكون العلّة في أن العمال السوفيات في العام 1932 كانوا ينجزون الخطة الخمسية في أقل من أربع سنوات وفي العام 1982 لاحقت شرطة أندروبوف العمال الهاربين من العمل في المصانع السوفياتية لتعيدهم بالقوة إلى حيث يعملون ؟
ثمة دالات قاطعة تدل على الأجوبة الصحيحة لهذه التساؤلات الصعبة . إحداها هي أنه كان للإتحاد السوفياتي في الثمانينيات 240 قمراً تدور حول الأرض في الفضاء يقابلها في المدن السوفياتية 240 طابورا للمواطنين ينتظرون الحصول على قطعة من اللحم أو حبات من البطاطا . ودالة أخرى تشير إلى أن الترسانة السوفياتية من الأسلحة كانت تساوي ثلاثة أمثال الترسانة الأميركية وقد احتوت الترسانة السوفياتية على 28 ألف رأس نووي مما دعا خروشتشوف إلى التساؤل .. ما حاجتنا لكل هذه الرؤوس النووية طالما بضعة رؤوس فقط بإمكانها أن تحرق العالم فلا يبقى أحد ليطلق آلاف الرؤوس المتبقية !! &ودالة ثالثة تشير إلى أن الاتحاد السوفياتي تقدم على الولايات المتحدة في صناعة الفضاء لمدة عشرين عاماً أو عشرة على الأقل بتقدير الخبراء الأمريكان . كل الأسلحة التي استهلكتها مصر وسوريا في حروبهما مع اسرائيل هي أسلحة سوفياتية ومجانية في الأغلب ؛ وكان قد أسرّ لي ضابط في الجيش السوري أن سوريا تشتري من السوفيات كل عشر بنادق كلاشينكوف بدولار واحد !! وأخيراً وليس آخراً يرى المراقبون اليوم أن كل الحروب الأهلية في العالم خلال العقود الأخيرة خاضها المتحاربون على طرفي النزاع بأسلحة سوفياتية . بعد كل هذا لا يملك المرء إلا أن يتساءل .. ماذا تبقى للشعوب السوفياتية لتأكل !!؟ كان ستالين يؤكد بقوة على أن التسلح إنما هو العدو الأول للإشتراكية، لكن السوفيات ومنذ وفاة ستالين وإلغاء الخطة الخمسية الخامسة في سبتمبر ايلول 1953 سخروا كل إنتاجهم للتسلح، وهو ما دأبت على تأكيده وزارة الخارجية الأميركية في تقاريرها السنوية ظناً منها أن ذلك كان موجهاً ضد الولايات المتحدة، بينما هو في الحقيقة موجه ضد الاشتراكية وكينونة الاتحاد السوفياتي كما ثبت في الواقع في النهاية .
إزاء كل هذا ليس لنا أن نستغرب انهيار أعظم دولة في العالم في العام 1991 مع أن الحزب الشيوعي الحاكم الذي جرى الإنقلاب عليه كان عدد أعضائه يتجاوز 17 مليون ؛ لكن ما هو حقيق بالإستغراب هو صمت الأحزاب الشيوعية المريب فلم يقل أحدها كلمة في حزب يعد 17 مليون عضواً ينهزم أمام عصابة صغيرة من شباب يلبسون السراويل الضيقة يقودهم السكير الماجن بوريس يلتسن . صمتها يعني مباشرة مشاركتها في الإنقلاب على الإشتراكية كما كان صمت الحزب والجيش السوفاتييَن.
في العام 1963 كنت في المعتقل الصحراوي وتسنى لي قراءة تقرير خروشتشوف للمؤتمر الثاني والعشرين للحزب 1961 وحالما أنهيت القراءة أكدت لرفاقي في المهجع وسط إستغرابهم واستنكارهم أن الاتحاد السوفياتي سينهار في العام 1990 . وبعد خروجنا من السجن كان خلافي مع الحزب هو الموقف من القيادة السوفياتية ففي أبريل نيسان 1965 وأثناء اجتماع عاصف مع الأمين العام المساعد للحزب الشيوعي الأردني أكدت له أن القادة في الكرملين ليسوا شيوعيين بل أعداء للشيوعية .
في سياق الإنخراط في إنتاج الأسلحة، لا بد لنا من أن نتذكر اعتراض ستالين على مسودة موازنة الجيش السوفياتي في العام 1936 إذ ردها وكتب تحت توقيعه .. " كل كبيك ينفق عل العسكرة يعيق بناء الاشتراكية بنفس المقدار &" وهو ما تسبب بمحاولة مارشال الاتحاد السوفياتي توخاتشيفسكي الاتقلاب العسكري على الحزب والدولة في العام 1937 . في سبتمبر ايلول 1953 كان ستالين قد رحل، أو رُحّل كما بات مؤكداً، ولم يكن موجوداً ليمنع العسكر من إلغاء الخطة الخماسية وتحويل كل مخصصاتها المالية للعسكرة والتسلح تماماً كما كان المارشال توخاتشوفسكي قد طالب .&
لم تكن الولايات المتحدة يوماً أقوى عسكرياً من الاتحاد السوفياتي، ولذلك فإن تحويل الأموال للعسكرة لم يكن لمَنَعة الدولة أو لسبق الولايات المتحدة في التسلح كما ادعى العسكر، بل كان لنقض الاشتراكية وهو ما تجسد بإلغاء الخطة الخمسية غير القانوني، الخطة التي كانت ستنقل العبور الاشتراكي حتى عتبة الشيوعية فلا يعود الرجوع عن الإشتراكية ممكناً . وما علاقة منعة الدولة السوفياتية بالأسلحة السوفياتية التي غطت وجه الأرض !؟ كانت الوظيفة التاريخية للدولة السوفياتية هي مساعدة الدول المستقلة حديثاً في بناء اقتصادها الوطني إلا أن الدولة السوفياتية وقد باتت معادية للشيوعية لم تكن تساعد البلدان المستقلة بغير الأسلحة الأمر الذي انعكس سلباً على هذه الدول حتى انهيارها . بل إن الكثير ن الوقائع تشير إلى أن الدولة السوفياتية في عهد خروشتشوف وما بعده ساهمت في انهيار الدول المستقلة حديثاً مثل مصر والجزائر وسوريا .
&
كان هتلر في الحرب العالمية الثانية قد حطم أكبر إمبراطوريتين استعماريتين في العالم، بريطانيا وفرنسا لكنه انهزم شر هزيمة أمام الاتحاد السوفياتي . ذلك ما تسبب في انفجار ثورة التحرر الوطني في العالم كله حال انتهاء الحرب 1946 ـ 1972 , في تلك الأثناء وفي العام 1953 تحديداً استولى العسكر على كل السلطة في الإتحاد السوفياتي وبدأوا بالتراجع عن الإشتراكية وهو ما انتهى إلى انهيار العالم الاشتراكي وعالم التحرر الوطني . ومن جهة أخرى فإن انتصار الاتحاد السوفياتي في الحرب والإلتحام العضوي بين الثورة الإشتراكية وثورة التحرر الوطني قد عملا على الإطاحة بالنظام الرأسمالي العالمي وانهياره على أساساته بعد أن فقد كل محيطاته في بداية السبعينيات . وهكذا وصل العالم، كل العالم إلى الإنهيار التام، العالم الرأسمالي والعالم الاشتراكي والعالم الثالث أو عالم التحرر الوطني .
العالم اليوم يعاني من كارثة وما يزيد في الكارثة هو أن أحداً من سكان العالم، من قادته أو من حوارييهم، من علماء الإقتصاد والمحللين الاستراتيجيين لم يستشعر بالكارثة بعد !! لماذا مثل هذه البلادة وعدم الحس بالمسؤولية !؟ السبب المباشر الوحيد لذلك هو أن هناك فيضاً من البضائع في الأسواق وكأن أمراً خطيراً لم يكن . لكن لماذا لا يلاحظ علماء الإقتصاد والمحللون الاستراتيجيون أن الدول الرأسمالية الكلاسيكية التي عرفت بإنتاجها البضاعي الكثيف خلال القرون الثلاثة الأخيرة هي اليوم ترزح تحت ديون هائلة لم تعد تحتمل ؟ هل يعود كل هذا إلى البلادة أم أن هناك أموراً أخرى ؟ ليس ثمة ما ينفي الإفتراض أن هناك أموراً أخرى، أموراً بورجوازية ذميمة يخشى افتضاحها . الولايات المتحدة الأميركية ترزح اليوم تحت مديونية خارجية تصل إلى 19 ترليون دولار وهو ما يعني بالقطع أنها لم تعد دولة رأسمالية، فالرأسمالية لا تعني أكثر من الدورة (نقد ـ بضاعة ـ نقد) أي تحويل النقود الموجودة مقدماً إلى بضاعة تستبدل بنقود أكثر، وخلق نقود جديدة لم تكن موجودة قبلئذٍ كل يوم، أي تحويل قوى العمل المتجددة يومياً في أجسام العمال إلى نقود . الدول الرأسمالية الكلاسيكية الأخرى ليست أقل مديونية من الولايات المتحدة . النظام الرأسمالي مات واندثر منذ العام 1971 حين اضطرت إدارة نيكسون الخروج من معاهدة بريتونوود (Britonwood) كي تطبع دولارات ليست مغطاة بالذهب أو البضاعة لتنفق على حربها في فيتنام .
أما فيض الإنتاج في أسواق العالم الذي يغطي وجه الأرض فمصدره الصين . الصين تصدر سنوياً إلى العالم بضائع رخيصة تصل قيمتها إلى 2.4 ترليون دولار . فماذا لو توقفت الصين نهائياً عن التصدير !!؟ &إذاك سيشعر العالم بالفاقة ويوقن أن ليس هناك نظام إنتاج كفوء وفعال . والسؤال المفصلي الذي يفرض نفسه هنا هو .. هل نظام الإنتاج في الصين كفوء وفعال وهو يغطي احتياجات كل العالم !؟ &ما يتوجب أن يتيقن منه علماء الإقتصاد قبل غيرهم هو أن نظام الإنتاج في الصين وقد أغرق العالم بمختلف البضائع ليس نظاما طبيعياً مستقراً بل هو اقتصاد كاذب ومؤامرة حاكها الرئيس الأميركي رتشارد نيكسون أثناء زيارته للصين في فبراير شباط 1972 مع الزعيم الصيني دينغ هيساو بينغ الذي كان قد عاد إلى الحزب الشيوعي بعد فشل الثورة الثقافية وكان ماوتسي تونغ قد وصمه بخروشتشوف الصين، وكلاهما (نيكسون وبينغ) معادٍ للشيوعية . اتفق الطرفان على أن تنتج الصين ما وسعها الإنتاج والولايات المتحدة تستورد كل ما تنتجه الصين وبشروط الأفضلية . كان االهدف الرئيسي لنيكسون هو حرف الصين عن المسار الاشتراكي وكان هذا وارداً بعد انحراف القيادة السوفياتية وانهيار ثورة ماوتسي تونغ الثقافية ـ الإدارات الأميركية المتعاقبة الحمقاء استنفذت كل مقدرات الولايات المتحدة الهائلة في مقاومة الشيوعية وما انتهى ذلك إلا بإطالة عمر الشيوعية فوق الأرض وانتهاء عمر الولايات المتحدة كدولة عظمى . إكتشفت الصين مؤخراً أن الدولارات الأميركية بدل إنتاجها لا تصرف، فصرف ترليون واحد من الترليونات الخمسة لديها سيؤدي مباشرة إلى سقوط الدولار ويبقى لديها أربعة ترليونات ساقطة لا تسوى شيئاً، كما سيؤدي ذلك إلى إغلاق صناعاتها . أطراف المركز الرأسمالي كانت تستهلك فائض الإنتاج مقابل المواد الخام أما الولايات المتحدة اليوم فهي تستهلك كل قيمة الانتاج الصيني مقابل لا شيء، مقابل دولارات غير قابلة للصرف . الصين اليوم مثل من يبلع الموسى فهي ليست رأسمالية وليست اشتراكية بذات الوقت . الإقتصاد الرأسمالي يبدأ اقتصاداً وطنياً ويتمدد ليتجاوز حدود الوطن ويمسي كوزموبوليتياً، أما الاقتصاد الصيني من تأسيس نيكسون ـ بينغ فقد بدأ كوزموبوليتياً مباشرة ولا يمكن أن يعود وطنياً، وهو لذلك سينهار في وقت قريب .
&
خلاصة ما نكتب هي أن عالم اليوم يفتقد لنظام إنتاج ثابت ومستقر ؛ وما كان ذلك إلا لأن البورجوازية الوضيعة السوفياتية بفعل العدوان الهتلري والحرب العظمى تمكنت إثر رحيل ستالين من الإنقلاب على الاشتراكية وإزاحة البروليتاريا من سدة الحكم وهو ما أعلنه خروشتشوف بكل وقاحة، استبدال دكتاتورية البروليتاريا بما اسماه "دولة الشعب كله" في مؤتمر الحزب الذي لم يعد شيوعياً في العام 1961 . ذلك ما تسبب بانهيار ثورة التحرر الوطني وهي الإمتداد الطبيعي للثورة الإشتراكية، وهو أيضاً ما فت في عضد البروليتاريا في مراكز الرأسمالية فلم تتقدم لاستلام السلطة حال انهيار الرأسمالية في مراكزها . البورجوازية الوضيعة السوفياتية بقيادة الجيش، الذي لم يعد أحمر، هربت من الإشتراكية التي كانت على وشك أن تكتمل في العام 1956 فلا تعود قابلة للنقض . ذلك الهروب التاريخي الكارثي أدى لزوماً إلى انعدام التقدم إلى الثورة الإشتراكية سواء كان ذلك في الدول الرأسمالية أم في الدول المستقلة حديثاً .
&
البورجوازية الوضيعة ورثت العوالم الثلاثة التي تشكلت بعد الحرب العالمية الثانية . ولما كانت البورجوازية الوضيعة لا تنتج غير الخدمات التي لا قيمة تبادلية لها ولا تقيم شبكة من علاقات الإنتاج القادرة على حمل المجتمع، فهي لذلك تقود العالم اليوم إلى الفقر والتهلكة هاربة من شبح الاشتراكية الذي يطاردها دون توقف .
قريباً وقريباً جداً سينهار نظام الإنتاج في الصين وسينهار الدولار بذات الوقت وستنزل بالعالم كارثة كونية لا يحيط بتداعياتها حتى المحيطيون . حينذاك فقط سيتعلم العالم أن الهروب من الإشتراكية الذي بدأته البورجوازية الوضيعة السوفياتية في خمسينيات القرن الماضي وتفشّى في الدول الرأسمالية سابقاً كما في دول العالم الثالث، يؤدي إلى التهلكة، وأن لينين عندما أعلن في افتتاح الجلسة التأسيسية للأممية الشيوعية في السادس من مارس آذار 1919 أن نجاح الثورة الاشتراكية في العالم غدا أمراً مؤكداً لم يكن يرجم في الغيب . عالم اليوم تحكمه البورجوازية الوضيعة وبالتالي لا يملك نظاما اجتماعياً مستقراً طالما أنه في حالة هروب من الاشتراكية التي لم ينقطع شبحها يحوم في سماء العالم .
المشروع اللينيني الإشتراكي الثوري الذي غرسه ستالين عميقاً في الأرض ما زالت جذوره حية تنتظر الربيع القادم لتنمو وتورق وتثمر وينعم العالم، كل العالم، بالرفاه والسلام .
&