رغم أننا لسنا مع أستخدام العبارات الشعبية إلا نادراً للتعبير عن الوقائع السياسية والسوسيولوجية والثقافية، التي تحتاج عادةً الى تفحص موضوعي مُستند الى مصطلحات معجمية علمية، إلا أن اللغة، هي الأخرى، بطبيعتها، لا تفي بالغرض دوماً و لا تستطيع أن تعبر بشكل وافي و فاعل لما تراه شبكة الرؤية من وقائع خارجة عنها حتى و إن حاولت اللغة من خلال علاقتها العضوية مع الفكر أن تقارب الأشياء المرئية وتوزع مفرداتها و مصطلحاتها على حقول علمية بغية تسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية الدقيقة. 

أذكر هذه الإشكالية لأقول هنا، أن اللغة أحياناً تكون أكثر فاعلية حينما تقترب الى ما هو سائد ومُستوطن في الذهنية الشعبية من أفكار و مفردات وجمل كوسائل للتعبير وطرائق للإفهام والإجماع أو الإجتماع الثقافي واللغوي. و من هذا المنطلق بالذات، عندما نسأل عن روح الأخوة بين الطوائف والقوميات والثقافات الموجودة في العراق، ننطلق من مفاهيم شعبية تعودنا على أن نُسلم بها بشأن، مثلاً، طبيعة العلاقة الحميمة التي تسود بين الأشقاء والمقربين الأولين أو الصداقة الأخلاقية غير المنفعية والمصلحية التي لا نجدها غالباً بين أحد إلا بين من هم منتمون لتلك الوحدة إلاجتماعية التي تسمى سوسيولوجياً وحتى شعبياً بالأُسرة، ذلك نظراً للقرابة الأولية المتمثلة في الدم والقيم العائلوية الموروثة والمكتسبة الواحدة، التي تُنَظم العلاقات الداخلية بين أفراد العائلة.

ولكن مع ذلك، سؤالنا، مع هذه الإستعارة Metaphor لعبارة( روح الأخوة)، يتمثل قبل أي شيء، في الآتي: هل حقاً ثمة علاقة قوية بين الطوائف والقوميات العراقية تُجيزنا اليوم و مع الواقع الذي تمر به البلاد والعباد تشبيهها بعلاقة الأُسرة الواحدة؟ أليس هذا التصور والمقاربة لتلك العلاقة أو حتى تمنيها هو ضرب من الوهم و اللاواقعية؟ كيف يمكن أن نُسَلِم بأننا أبناء عائلة واحدة بينما تتصارع القوى العراقية وأمام اعيننا جميعاً على كل شيء دفاعاً عن مطامح و مصالح طائفية و قومية ضيقة؟

كيف يمكننا القول بأننا متسلحون بقيم إجتماعية و وطنية ذات طوابع عائلية في حين نمارس سياسات إضطهادية و آيديولوجية و تطهيرية تجاه بعضنا البعض؟ أين هي (روح الأخوة) التي لا تقبل أن تتعايش مع أخيها المتماهي معها دينياً و حضارياً و وطنياً؟ كيف لنا أن نتحدث عن عراق موَحَّد و واحد و عن مستقبل مشرق و واعد بينما رضخنا بسهولة و بلا أي مناعة أخلاقية و وعقلانية لهيمنة روح العداء والإقصاء تجاه ابعضنا البعض و قمنا عملياً خلال العقد الماضي - ونؤمن بها عقلياً حتى الآن للأسف !- بتهجير عوائل عراقية من مواقعهم ومناطق سكناهم لا لشيء آخر سوى لأنهم سنيي أو شيعيي المذهب، كما كان يقوم بها البعث (1968-2003م) تجاه الكُرد بسبب تمسكهم فقط بإختلافهم العرقي حتى و لو كانوا حاملين للجنسية العراقية و يحترمون البعد العراقي الوطني لهويتم؟ 

كيف نفهم ظاهرة إنعدام الثقة والطمأنينة لدى المواطن العراقي في أن يعيش في بقعة من الأرض لا يتعرض فيها للإضطهاد الطائفي و القومي كما هو حال السني اليوم عندما يخشى العيش في الكربلاء أو النجف، أو حال الشيعي عندما يود الإنتقال الى الإنبار أو تكريت، أو حال الكُردي حينما يخاف حتى أن يلبس زيه القومي بحرية وأمان ويتجول في بعض مناطق وسط و جنوب العراق؟ أليس كل هذا موضع الخيبة والتشاؤم للحالة العراقية و عراق ما بعد الإستبداد والدكتاتورية؟ أليس هذا محل الخزي والعار للساسة والمسؤولين في الدولة والأحزاب الطائفية، التي أنتجت لنا كل هذا الواقع الأليم المنبثق عن ثقافة الكراهية والطائفية والقوموية المتفشية في ربوع البلاد و بين العباد؟ 
ان عراق اليوم، في نظرنا، يمر بأسوأ مراحله السياسية والإجتماعية والثقافية والأمنية والأخلاقية، و يواجه تحديات جمة لا تنتهي أبداً بنهاية داعش عسكرياً، ذلك لأن العراق أصبح اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بلداً مفتوحاً للتنابذ الطائفي والعرقي والحزبي و ساحة مفتوحة للصراعات الإقليمية والتجاذبات الدولية، و لم يعد سهلاً للمرء أن يتصور وجود روح للأخوة والتلاحم بين أبنائها، وهذا بحد ذاته أخطر نواقيس الخطر بالنسبة لنا جميعاً!، بل يُزيد لنا القلق و الخشية تجاه الحاضر والمستقبل، و يحذر بوضوح القوى السياسية على الساحة العراقية أن تتحمل مسؤولية ما تحدث على أرض الواقع من نزاعات طائفية و عرقية محتمدمة بدأت تتراكم بقوة لحد توقع إنفجارها الكارثي و تحولها – لا سامح الله- الى حرب أهلية، حرب كُنا متفقين مبدئياً، على أن تحدث و إلا ستُدَمَر البلاد و تتجزأ لا محالة الى دويلات متطاحنة ومتقاتلة!

*كاتب و إعلامي – من كُردستان العراق