نقل أحد السياسيين عن غازي الياور وقت رئاسته لجمهورية العراق في 2004؛ أنه بالصدفة التقى بأياد علاوي خلال فترة رئاسة للوزراء، في إحد المحافل، فأخبره أنه اتصل مرارا به وبمكتبه لملاقاته فلم يفلح، فقال له الأخير أنه مشغول وسيراه لاحقاً.

رئاسة الجهورية التي تبدو اسمياً بحجم العراق، يعجز ماسكها من الحصول على موعد مع من هو أدنى رمزياً، بل ودستورياً (وحتى في قانون إدارة الدولة الانتقالي)، لأن رئاسة الحكومة عملياً المنصب الأقوى، وأن علاوي لم يكن معنيا بالتقاليد الدستورية. ورغم هذه الشكلية، يبقى وجود المنصب مهماً رمزياً، فهو مسمى للعراق، ولأي بلد جمهوري يعتمد نظاما نيابيا. غير أن المناصب الأخرى "الشرفية" الأخرى عبث. لذا، ما يحصل في اللحظة الراهنة من مناصب شكلية، وأهمها نواب رئيس الجمهورية، أكبر سخرية يمكن أن تواجه بها العملية السياسية الشعب العراقي. وعندما نتحدث عن الترهل الإداري، فعلينا قبل أي شيء أن نتلمس طبيعة المناصب غير المفصلة على الأشخاص، فقط لأنهم أقوياء. فهي عنوان الفساد السياسي المقنن بالتوافق، والمقر نيابيا. وهذه السنّة تمتد وتخلّد، لأن العملية السياسية ليست سوى شخوصها وزعاماتها.

فأقوياء العراق يخرجون المناصب من حدود صلاحياتها، وإذا ما أخرجوا منهم ووجدوا أنفسهم خارج اللعبة، يبحثون عن كراسي تفصل على مقاساتهم، ويتخذون منها قناة للإزعاج السياسي، فضلا عن الثقل المالي الكبير على عاتق دولة التقشف. وإن كل مرحلة تأتي معها حزمة مناصب تأخذ شكل مؤسسات، وهي في الحقيقة ليست كذلك بل دكاكين استرزاق وبقاء في المشهد. لذا، واحدة من أهم مشكلات البلاد تكمن في زعاماتها التي ترى نفسها أكبر من العملية السياسية ودستورها وكيانها والديمقراطية... وهذه المشكلة ممتدة الى مستقبل بعيد، بل وتورّث، لأن العديد من القيادات سبق وأن نقلت القيادة الى الأبناء، أو الى المحظيين من الخلفاء. وعلاوة على ذلك، فإن الديمقراطية والتناقل السلس والديمقراطي للسلطة داخل الأحزاب محل شك وسؤال، بل ويقين بأن السياقات الديمقراطية مفقودة بالكامل. ولذا، فإن العراق بلد أسماء وليس مؤسسات، ولن يخرج عن هذه الصيغة.

إن نواب الرئيس الثلاثة، وهم المالكي وعلاوي والنجيفي، عنوان للمناصب المستخدمة إرضاء وجزء من منظومة الفساد السياسي الضاغطة على نزاهة العملية السياسية. أحدهم يقدم نفسه زعيما على العلمانية العراقية، والآخر مختار العصر ومنقذ الشيعة، والثالث زعيم السنة وسيد الموصل. وبهذا فإن الثلاثة يقدمون أنفسهم قيادات للقوى الرئيسية المتصارعة، ويحتمون بها للبقاء الى أبعد وقت ممكن، أصحاب مناصب ومكان وتأثير ونفوذ. أي انهم يعتمدون على نقطة الخلاف الرئيسية بين فصائل المجتمع، ويعيّنون ذواتهم ممثلين للنزاع، ليمتد بهم البقاء طويلاً.

وحال المناصب الرئيسية هذا، يؤشر الى حال الدوائر الأصغر، لتظل البلاد أيضا رهن الأشخاص، وتوجهاتهم، مهما تركزت الجهود الحكومية والنيابية. فموضوع مثل المخصصات المالية للرئاسات، وإن قُدم باعتباره خطوة مهمة نحو محاربة الفساد السياسي، يظل محاطاً بأسئلة حول جدوى المناصب. لأننا هنا لا نتحدث عن مسوؤليات، فلا وجود لها حين ننظر الى صلاحيات نواب الرئيس، إنما عن الشخوص. وبذا، فإن الأسماء تكون هي العراق، لأن مكانتها، وصفات كراسيها تجعلها معياراً للمسؤول الأعلى. وبهذا نستعيد مجددا مقولة (أنت العراق) التي قيلت للدكتاتور، فهي اليوم تقال عملياً لورثته.

الأمر ليس وليد الوقت الحالي، انما جزء منهجية صناعة دستور رديف أقوى من الرسمي. ففي 2010 كان اتفاق أربيل سيء الصيت يقضي بأن يشكل مجلس غير دستوري على مقاسات أياد علاوي، وقد فشل، ليس لأن الدستور قوي، بل لأن أحد أطراف الاتفاق وهو نوري المالكي كان أقوى من التفاهمات. وفي 2014 جاء موضوع نواب الرئيسي، كرشوة تحقق الانتقال السلمي للسلطة، فإذا بالرشوة والفساد السياسيين، يمثلان عنوانا متجددا لـ"العراق الجديد" تكتب في كل مرة عملية سياسية تدار من خلال رموز، وتتشكل بموجب مصالح الزعامات، وتدفع بعجلة لا يمكن أن تتحرك الا إذا حين وافقت تلك الرموز... وحين نهبط نحو الدرجات الأقل سنجد العشرات بل والمئات من الحالات المشابهة.
فهل يمكن أن يرجى من هذه العملية شيء مهم، وخطوة جبارة؟!
قبل الجواب، لنتذكر منظومة النهب في هذه العملية، ولنتذكر صعوبة أو استحالة مرور أي موقف أو قرار لا يحظى بمباركة أمراء العملية السياسية.&

&